• 24 تموز 2019
  • أقلام مقدسية

 

بقلم : حسن اوريد

التعبير لصحافي فلسطيني مرموق هو سمير قصير في كتاب له يحمل عنوان «تأملات في مأساة العالم العربي»، كتبه باللغة الفرنسية، سنة 2003 قبل أن يُغتال عاما بعدها. يعزو مأساة العالم العربي إلى عاملين هما التاريخ والجغرافيا، ولربما الجغرافيا قبل التاريخ، أي أن مصدر مأساة العالم العربي، حسب هذا العارف بشؤون العالم العربي، هو ما سماه بلعنة الجغرافيا، أي الجوار مع الغرب، وما يترتب عن ذلك من تنافس وصراع.
الإسلام من منظور المسيحية، انتزع أقاليم كانت تابعة لها، في الشام ومصر وشمال افريقيا، ولذلك سعت من خلال الحروب الصليبية لأن تأخذ ثأرها، ثم بعدها، وقد تعلمنت أوروبا، بدون أن تنسلخ عن جذورها المسيحية، من خلال الاستعمار. العلاقة طردية، يقول سمير قصير، وهي شبيهة بما سماه بالساعة الرملية، ما أن تمتلئ من جهة حتى تُفرغ من جهة أخرى. لعنة الجغرافيا هي من ميزاتها كذلك. فالعالم العربي يوجد في مفترق ثلاث قارات، وهو نقطة التقاء حضارات عدة، ويوجد على الضفة الجنوبية لحوض البحر الأبيض المتوسط، مهد الحضارات الكونية أغلبها، وهو ممر لمعابر استراتيجية هي مضيق جبل طارق، وقناة السويس وباب المندب، ومضيق هرمز. ثم هو إلى ذلك مستودع أكبر خزان للبترول في العالم. كلها عوامل جعلت العالم العربي محط أطماع ومن ثمة مركزيا.

محورية العالم العربي من موقعه الاستراتيجي إذن، بيد أن هذه النظرية اهتزت مع الرئيس أوباما، أو على الأخص في حواره الذي كان أعطاه لمجلة «أتلانتيك مانثلي» في إبريل/نيسان 2016 حيث يؤشر إلى تحول المقاربة حيال العالم العربي. الثقل الاقتصادي، بمقتضى هذه الرؤية، تحول إلى المحيط الهادئ، إذ أن سبعين في المئة من المبادلات التجارية تجري في بحر الصين، والبترول لم يعد مادة استراتيجية، ومن شأن الطاقات المتجددة أن تحل محل البترول، كما سبق أن حلّ البترول محل الفحم الحجري.
لكن من يستطيع اليوم أن يزعم أن العالم العربي فقد مركزيته؟ التوتر القائم في الخليج يعيد مركزية العالم العربي من جديد. والصراع من أجل التحكم في المنافذ البحرية، سواء في مضيق هرمز أو باب المندب، أو التمركز في البحر الأحمر يثبت استراتيجية المنافذ. واحتدام التوتر في الخليج من شأنه أن يرفع أسعار البترول، ويعيد للمحروقات أهميتها. من عوامل المركزية كذلك متحولات جديدة، منها بروز قوى إقليمية، الأمر الذي يؤجج التوتر في الخليج، وهو توتر من شأنه في حالة اندلاعه أن يهدد الأمن والاستقرار في العالم. ترتبط مركزية العالم العربي كذلك بالحراك الذي يموج في العالم العربي، والذي يسعى أن يتجاوز البنية الموروثة عن الاستعمار، ويعيد النظر في علاقة الحاكم والمحكوم، وتوزيع الثروة، مع الاحتمالات الممكنة لأي انزلاق أو فشل، ومضاعفاتهما، مِن الهجرة، أو في حالة عجر البنيات القائمة في استيعاب مكونات المجتمع، ما قد يؤدي إلى اندلاع حروب أهلية، أو تفككها، أو الإرهاب.
يظل العنصر الثابت في ما قد يُنعت بلعنة العالم العربي وتأثير عنصر من الخارج، في هذا المصطلح المستقى من العلوم النفسية، أي فرض قواعد من الخارج، ما يفيد بانعدام الاستقلالية. بتعبير آخر، ظل العالم العربي موضوع تأثير أكثر من أن يكون مؤثِرا.
على مدى قرنين تأثر العالم العربي بسياق دولي أكثر مما كان عنصرا مؤثرا. لم تكن التحولات التي عرفها نتاج دينامية داخلية، كما حدث في اليابان أو الصين، بقدر ما كانت نتاج عنصر خارجي. حلول نابليون بمصر هو ما أفرز هبّة، وسياق الحرب العالمية الأولى ونتائجها هو ما رسم معالم الشرق الأوسط، التي ما تزال قائمة إلى الآن، مع سايكس بيكو وإعلان بلفور، وقيام المملكة العربية السعودية. وهي المنظومة التي سميت بالزمن البريطاني، والتي ما تزال تبعاتها قائمة، وأفرزت بالتبعية رد فعل متمثل في القومية العربية. ثم سياق الحرب العالمية الثانية الذي أفرز وضعين متضاربين، حركة التحرر، وهو الأمر الذي مكن من استقلال الدول التي كان مستعمرة، ثم قيام دولة إسرائيل، وهو الأمر الذي زج بالمنطقة في صراع ما يزال مستمرا، رهن قدراتها وعطّل طاقاتها، لما يسميه البعض بـ»البيغ بونغ»، أو لحظة الانفجار الأكبر.
ومن دون شك أن اللحظة الثانية الحاسمة أو «البيغ بونغ» الثاني الذي ستتناسل عنها تحولات عميقة في الثقافة السارية والبني القائمة في الشرق الأوسط هو الثورة الإيرانية.
إلى الآن لم يبرأ العالم العربي من مخلفات «البيغ بونغ» الأول، أي قيام دولة إسرائيل، لأنه أفضى إلى الإجهاز على حقوق شعب.
ولم يبرأ من مخلفات «البيغ بونغ» الثاني وهو تداعيات الثورة الإيرانية. لم تُخفِ إيران منذ البداية حلم تصدير الثورة، وتغيير البنى القائمة في الشرق الأوسط، بله في العالم العربي ككل. وكما في العلوم النفسية، لا يمكن تجاوز احتقان أو صدمة إلا بالعودة إلى المحطة المؤثرة. لا يمكن تجاوز تأثير «البيغ بونغ» الأول إلا من خلال إحقاق حقوق الشعب الفلسطيني، ولا يمكن تجاوز آثار «البيغ بونغ» الثاني إلا من خلال بناء الثقة بين إيران وجيرانها بعيدا عن منطق الوصاية أو الاستعلاء.
القضية الفلسطينية ليست قضية إنسانية لمهاجرين، ولا يمكن أن تختزل في بعد اقتصادي لساكنة تعيش أوضاعا هشة. القضية الفلسطينية هي قضية شعب، من حقه أن يقرر في مصيره، وليس لأحد أن يقرر عوضه. وإيران دولة مهمة في المنطقة، ولكن لا يمكن قبول أن تكون وصية على المنطقة، وهو الحلم الذي ما برّح يداعبها منذ الشاه.
يمكن أن يضاف عامل ثالث يهم بالأساس شمال افريقيا، هو العلاقة التي ينبغي أن تقوم مع فرنسا. الطبيعة الملتبسة والمتأرجحة لعلاقة فرنسا بشمال افريقيا بين الوصاية من جهة، أو الرفض التام من جهة أخرى، لا يسهم في قيام علاقات طبيعية. لا يمكن إنكار البعد التاريخي لهذه العلاقات، ولكن لا يمكن استنساخ النموذج الاستعماري في أشكال جديدة. تلك هي الرهانات الكبرى من أجل الخروج من وضع يتأثر فيه العالم العربي بالأحداث أكثر مما يؤثر فيها، أو ما قد نسميه باللعنة البنيوية، التي حالت دون أن يكون مالكا وسيدا لمصيره، حسب التعبير المأثور لديكارت.

القدس العربي