• 25 آب 2019
  • أقلام مقدسية

 

بقلم : صبحي حديدي

قبل أسابيع قليلة كان القضاء الإسرائيلي، الذي تتباهى به دولة الاحتلال وتعتبره معظم أرجاء “العالم الحر” واحداً من مفاخر هذه “الواحة الديمقراطية” في الشرق الأوسط، قد أصدر قراراً بإخلاء عائلة مقدسية من منزلها، وتسليمه إلى جمعية “إلعاد” الاستيطانية. وهذا ملفّ شهد، طوال 30 سنة ونيف، تقلبات قانونية شتى لصالح الاستيطان أو ضدّه، حتى وصلت المداولات إلى سقف أقصى لجأت بعده المحكمة العليا الإسرائيلية إلى ترجيح كفّة “إلعاد” استناداً إلى قانون “أملاك الغائبين” الذي يعود إلى 70 سنة من عمر الاحتلال، في أعقاب النكبة واغتصاب فلسطين.

والحال أنّ حيّ سلوان، وعائلة صيام، ثمّ شخص جواد صيام مدير مركز معلومات وادي حلوة، ليسوا سوى النموذج الأحدث على طبائع الصراع المرير، متعدد الأوجه والميادين والأطراف، الذي يخوضه، وفي الواقع: يُدفع إليه بقوّة المهزلة/ المأساة في هذا “القضاء”، قرابة 20 ألف فلسطيني من سكان القدس. وإلى جانب دولة الاحتلال في جميع أركانها، ومؤسسات الاستيطان المختلفة، وقوانين التمييز العنصري، والتهويد القسري، ومصادرة الأراضي وقضمها، وتهديم البيوت، وإقامة الجدران العازلة… إلى جانب هذا كلّه، وسواه، ثمة الولايات المتحدة الأمريكية، ابتداءً من ساكن البيت الأبيض شخصياً، وليس انتهاءً بمجموعات الضغط الصغرى والكبرى.

على سبيل المثال الأبرز، وبعد قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة، صرّح السفير الأمريكي لدى دولة الاحتلال، دافيد فردمان، بأنّ منع “إلعاد” من وضع اليد على ممتلكات آل صيام يشبه تجريد أمريكا من تمثال الحرّية! زميله جيسون غرينبلات، موفد الإدارة إلى الشرق الأوسط، انضمّ إليه في حمل المطرقة وتهديم جدار رمزي يدشن نفقاً يمرّ تحت سلوان ليصل إلى تخوم المسجد الأقصى، في مسعى لإعادة إحياء “درب حجّ” إلى الهيكل كان قائماً أيام الرومان قبل 3000 سنة.

وكما ثبت ويثبت في كل دورة عنف ضد المدينة، لم يحدث أنّ العقود والقرون واصطفافات القوى والصراعات، أسوة بالشعوب والديانات والعقائد والحفريات، نجحت في تبديل خصوصية القدس الفريدة: أنها مدينة التاريخ، بقوانينه الثابتة تارة والمتحركة طوراً، حيث يصحّ القول مجدداً بأنّ الأرض هنا لا ينقلب فيها حجر إلا ويقترح معادلة تضيء الحاضر، من وحي الماضي، ليس من دون استشراف المستقبل أيضاً.

فكيف يمكن أن تصبح الحال إذا توهّمت مخيّلة استيطانية صهيونية عنصرية، على مقاس مهابيل النفق الروماني وهسترات حاخامات “إلعاد”، أنّ التاريخ الحيّ يمكن أن يُمسخ إلى جغرافيا توراتية صمّاء؛ وأنّ ترجمة اللاهوت الميتافيزيقي إلى سياسة استيطانية كفيلة بطمس ديناميات المدينة الخالدة، في مكوّناتها مجتزأة، أو في أبعادها كافة!

وفي العودة إلى سلوان وممتلكات آل صيام في القدس المحتلة، يصحّ استذكار حقيقة كبرى اقترنت بالمدينة أبد الدهر: أنّ عمرانها على الأرض، مثلما في المخيّلة والنصوص الدينية، كان صورة دائمة الصدق تعكس الجوانب العبقرية من خصوصياتها المختلفة، منذ المعماري اليبوسي الأوّل المجهول. وفي كلّ حال، ثمة هذا الرقم: مملكة داود لم تكن تتجاوز 20 أكرة (مقابل 27.000 أكرة تحتلها إسرائيل اليوم!)؛ وهذه المعلومة: داود جاء إلى فراغ إسرائيلي، مقابل امتلاء كنعاني يمتدّ ألف سنة على الأقلّ؛ وهذه الحقيقة الصارخة: أنّ القدس محتلّة، بالتعريف الفعلي على الأرض، كما في التعريف القانوني القابع في أدراج الأمم المتحدة؛ وأنّ خصوصيتها ليست أزلية عتيقة عريقة، فحسب؛ بل حاضرة ومعاصرة وراهنة!

وكان مناحيم بيغين، رئيس وزراء دولة الاحتلال الأسبق ورائد صعود اليمين الإسرائيلي على أشلاء “يسار” الصهيونية وخرافاته، رائداً أيضاً في هندسة هذيان “أورشليم عاصمة أبدية”؛ الذي سوف تلهث خلفه مدارس الصهيونية، وما بعد الصهيونية، وما بعد بعد الهوية اليهودية وقومية الدولة، وصولاً إلى ثنائي بنيامين نتنياهو/ دونالد ترامب، ومطرقة غرينبلات/ فريدمان…

القدس العربي