• 3 تشرين أول 2019
  • أقلام مقدسية

 

بقلم : إبراهيم نصر الله

 

كنت أراجع، صباح أمس، مقالي الذي كتبته لأرسله إلى «القدس العربي»، لينشر اليوم، حين قرأت عن القضية التي رفعها الأسترالي إبرهارد فرانك (79 عاماً) ضد حكومته بلاده، لأنها رفضت أن تسجل، في جواز سفره، أنه رسمياً من مواليد فلسطين، وكم سعدت أن الحكومة الأسترالية خسرت هذه الدعوى القضائية بعد قيامها بإزالة اسم فلسطين في العام الماضي من طلب جواز السفر الذي قدّمه فرانك.
قال فرانك: «طوال حياتي، أخبرني والدي أنني ولدت في فلسطين، ولدي شهادة ميلاد بعنوان حكومة فلسطين تذكر أنني ولدت في يافا».
تفتح قصّة، أو قضية، فرانك جرحاً واسعاً، ونحن نستعيد الطريقة التي تمّ فيها محو اسم فلسطين من ملايين جوازات السفر المعرفية لأبنائنا، وأعني كتبهم المدرسية، بتواطؤ حكومات عربية وبتواطؤ السلطة الفلسطينية ذاتها، التي بات علينا أن نطالبها بالاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، كما نطالب أمريكا! على رأي أحد الأصدقاء. ونستعيد كيف عملت دول على التواطؤ على اسم فلسطين حيثما ورد، وسعت إلى محوه، أو محته من كتب الجغرافيا والتاريخ، وكيف عملت على إجبار الفلسطيني على أن يكفّ عن ترديد هذا الاسم في كثير من منافيه، بل كيف حولت هذا الاسم إلى دليل اتهام، أو دليل عدم انتماء للمكان الذي حلّ فيه، وأصبح هذا الاسم سبباً لقتله، أو تهميشه، أو عقابه إنسانياً ووظيفياً، وحياتياً في أدق التفاصيل، بل غدا هذا الاسم سبباً في ممارسة تمييز عنصريّ ضده بأشكال جديدة لم تخطر ببال عتاة العنصريين.
من الطبيعي، في المنطق الصهيوني، أن يتم محو اسم فلسطين، ووضع اسم بغيض مكانه، ومن الطبيعي في هذا المنطق أن يتمّ محو مئات الأسماء لقرى وبلدات ومدن فلسطينية ووضع أسماء بغيضة أخرى مكان الأسماء الأصلية، ومن الطبيعي أن تُطلق على من بقي في أرضه، في فلسطين البحرية، أو يُطلق البعض عليهم: عرب إسرائيل. كي لا يرِدَ اسم فلسطين في التسمية، لكن المرعب في الأمر هو ذلك التبرع الذي تقدّمه اليوم أنظمة عربية وبعض غربانها، الذين ينعقون بين حين وحين، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ويمحون اسم فلسطين والشعب الفلسطيني ويروّجون لذلك، أو يذهبون لالتقاط الصورة مع القتلة وهم يبتسمون لأنهم حرروا النازية الصهيونية من بُغضنا لها!
قد يُتفِّه بعضنا تأثير هؤلاء، ولكن ذلك غير دقيق، ولا يكفي، فهناك كثير من السُّذّج الذين تمتص أدمغتهم الحبر المسموم لأقلام هؤلاء، ويرددون نعيقهم، بسذاجة، أو اقتناع، وأقول اقتناع، لأن ثقافة هؤلاء السُّذج، لا تملك ذلك الترياق الذي يبطل مفعول ذلك الحبر البغيض.
في معرض عمان الدولي للكتاب، طُرِح عليّ سؤال لم يسبق أن طرح عليّ في أي مكان، وأعني أي مكان في العالم حتى الآن، بعد مئات من اللقاءات مع البشر على سطح هذا الكوكب، وفي ظني أن التي طرحت السؤال كانت تطرحه ببراءة جاهلة مبالغ فيها، لأنها لو كانت تدرك القليل من خطورته لتحفّظت، ولكنها كانت تملك جرأة طرحه لسبب واحد: أنها تعتبره سؤالاً لا يمس إنسانيتها ووطنيّتها ووعيها أمام أكثر من 200 من زميلاتها وزملائها الشباب!
كان السؤال كالتالي: البعض يقول إن الأرض، كل الأرض، مُلك لله، فلماذا نعترض على أن يأخذ اليهود فلسطين، فهم أيضاً أفضل منا، علمياً، وديمقراطياً، وأكثر تقدماً في كل المجالات؟!
التفتّ لأعين الجالسين من الكتّاب وأساتذة الجامعات في الصفّ الأول، فرأيتها قد اتسعت على نحو مرعب، ولم يكن قلبي أقلّ رعباً أمام صدمة السؤال التي هزّته؛ فهذا سؤال لم أتخيل أنني سأسمعه هنا، وفي لقاء يقام خصيصاً لهؤلاء الشباب على هامش معرض عمان الدولي للكتاب، وأفزعني أكثر أن السؤال معزز بمنطق (دينيٍّ).
سألت تلك الفتاة، التي تبدو في مطلع العشرينيات من عمرها، سؤالاً أحسست أنه في حجم وعي سؤالها: أنت تسكنين في بيت، البيت مقام فوق أرض، ومواد بنائه من تلك الأرض أيضاً، أي أنه أرض، كله أرض، صحيح؟
أجابت: أجل.
فسألتها: أنتِ في بداية حياتك الثانية في مجال التعليم. ماذا لو جاء رجل أو امرأة يحملان شهادة في الهندسة، أو الطب، أو أساتذة جامعات، أو أصحاب مصانع، وطرقوا بابك وقالوا لك: نحن أحق بهذا البيت لأننا أكثر منك تعليماً وثقافة، هل تمنحينهم بيتك؟!
أجابت: لا.
المشكلة الكبيرة أن ننظر إلى الفلسطينيين كما لو أنه لم يكن بينهم أساتذة وأطباء ومهندسون، كما لو لم يكن لهم صحفهم وكتّابهم ومبدعوهم في كل مجالات الحياة، وثوارهم أيضاً الذين رفضوا الذلّ، وقالوا: لا. هي الـ «لا» نفسها التي قالتها تلك الفتاة حين تعلّق الأمر ببيتها، ولكن «لا» الفلسطينيين كلفتهم دماء كثيرة وآلاف الشهداء ومئات الآلاف من الأسرى، وملايين مشردة في كل بقاع الأرض، يقفل المتصهينون الجدد أفواه هذه الملايين، في كثير من البلدان، كما لو أن هذا الاسم الجميل هو فايروس سيدمّر تلك المنافي.
من المحزن أن المرء يستطيع اليوم ترديد اسم فلسطين في لندن وروما وباريس وكانبرا وملبورن وسيدني، وحتى نيويورك، بحرية تفوق قدرته على ترديده في عواصم عربية كثيرة.
في ذلك اللقاء، قلت لتلك السائلة: في أول حوار صحافي معي، وكنت في السادسة والعشرين من عمري، قلت شيئاً لم أزل أردّده حتى اليوم: إننا نقف مع فلسطين، لا لأننا فلسطينيون أو عرب، بل لأن فلسطين امتحان يومي لضمير العالم. ولو كانت الصهيونية أقامت كيانها البغيض، العنصري، في أقصى مكان في العالم أو في أبعد جزيرة في المحيط الهادي، لكان علينا أن نكون ضد هذا الكيان، كما كان ضمير العالم ضد نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وبلاد أخرى في هذا العالم.
وبعد:
ماذا لو قام فلسطيني، كما فعل فرانك، برفع دعوى ضد حكومة عربية رفضت أجهزتها وضع اسم فلسطين في جواز سفره؟ هل سيتركونه يربح قضية كهذه؟ هل سيبقونه في ذلك البلد، وهم يفكرون في ممارسات أشد عنصرية ضده؟ هل سيلقون به في مخيمات الصحراء، ليشويه الحرُّ نهاراً ليأكله البرد ليلاً، كما حدث كثيراً، لأنه فقط: فلسطيني، ولأنه مُصرّ على ذلك؟

 

القدس العربي