• 18 تشرين أول 2019
  • أقلام مقدسية

 

 

بقلم : الامير الحسن بن طلال

 

 

لا يمنع تلاحق الأحداث والمواقف الإقليمية والدولية، سواء اتفقت أو اختلفت، إزاء ما يحدث في شمالي شرق سوريا من فتح منافذ الأسئلة وسط غبار المعارك وضبابية الأفق المُلبَّد بغيوم متداخلة من هنا وهناك، بل يجب أن تكون أسئلتنا حاضرة وسط هذا الضجيج وأكثر من أي وقت مضى حول مَنْ الذي يستشرف مستقبل هذا المشرق العربي الإسلامي، وإلى أين يريد الاتجاه به، ولصالح مَنْ في نهاية المطاف؟ ثم إلى متى البقاء في حالة سكون التلقّي وركود الصمت واللاأبالية أمام أسافين تُدَق الآن بيننا، وستؤول بالنتيجة حتما إلى ركائز يبني عليها الآخرون خارج مشرقنا القَلِق ما يخدم مصالحهم، فيما الندم سيجتاح مساحات الصمت فينا، ولن يطول الوقت حتى يظهر مقدار ما يجره الصمت من تبعات وعواقب إذا استمرّ على هذا النحو المُحيِّر. فلا استقرار للعمق في شرقي المتوسط إلا باستقرار العمق الاستراتيجي الذي يقوم على تعزيز كرامة الإنسان وتمكين هذا الإنسان وتفويضه ليكون شريكا في صنع المستقبل.

وأقول من منطلق منتديات الفكر إن التشبيك في ما بيننا للوصول إلى الناس مباشرة يتطلَّب الاقتراب من الواقع المجتمعي أكثر فأكثر عبر الاستماع إلى هؤلاء الناس والحديث معهم؛ حديثا مبنيا على المعرفة العميقة ليصبح الخطاب الداعي للعمق الاستراتيجي مشتركا بين التعدّد والتنوّع النوعي، وهو أساس الدستور الأول لسوريا في عهد الملك فيصل أو ما عُرف بالقانون الأساسي لعام 1920.

وحين ندعو إلى تحرك ضميري وجداني فكري من داخل المنطقة، وبالاعتماد على قوّة التنوّع الكامنة فيها، وإمكانات التناسج والتفاعل والتلاقي بين مكوّنات تأتلف وتتآلف من أربع قوميات لها جذورها المتصلة جغرافيا وتاريخيا وحضاريا، أي العرب والتُرك والفُرس والكرد؛ فإننا نسعى إلى إعادة النصاب والثبات لميزان الحقائق، مقابل ما يُلم بالمنطقة من اهتزازات تجعل من إصدار الأحكام على تلك الحقائق، أيا كانت، مرتهنا لمنطق الأمن الظرفي، فيما الأمن الأساسي الكفيل بإيجاد التكامل الطبيعي في إطار التنوّع المشرقي غائب أو مُغيَّب من أجل ظرفية تتعمّق وسط مآس من التهجير والاقتلاع وتفكك المجتمعات، وتمكُّن خطابات الكراهية من جديد من نفث سمومها القاتلة، ولاسيما أن 80 بالمئة من لاجئي العالم هم من المسلمين، وفيهم 68 بالمئة من العرب. ولا نحتاج إلى كثير شرح في أن تلك المجاميع من البشر التي تنظر إليها المنظمات الدولية من خلال الصوامع، والتي سيتم بحث شأنها في مؤتمر للاجئين يُعقد في نهاية العام الحالي؛ هي خير شاهد على مآلات الحروب.

فكيف نؤنسن هذا اللقاء لضمان الأمن الحقيقي الذي لا يمكن أن يأتي تابعا لفشل المخططات المجحفة في حق الإنسان العربي والمسلم؟ وحينذاك هل يُعقل الحديث عن غالب ومغلوب على الصعيد الإسلامي والعربي؟ وهل نضحي بإمكانات التنوّع في حروب لن تؤدي إلى استقرار إقليمي نحتاجه لرأسمال بشري يستطيع أن يكون دعامة وسياجا للكرامة الإنسانية والتعاون بين شعوب المنطقة، وحتى إنه ليس من المستحيل أن يصنع نهضة تنموية إقليمية جديدة في هذا العالم، تضاهي نهضة جيراننا في شرقي وجنوبي شرق آسيا، إذا توافرت الشروط والمناخ الصحي في العَلاقة التكاملية بين أعمدة الأمّة. وهنا علينا أن نتذكَّر- على سبيل المثال- أن دولا مثل العراق وإيران وتركيا تضم مجتمعة 260 مليونا من الثروة البشرية، ما يعني أن نسبة عالية من هذه الملايين تتمثل فيها طاقات وقوى فاعلة في تنمية إنسانية مستدامة.

لا بد من تفحص مستقبل الواقع التكاملي بمنظار البُعد المصيري، ولا بد من عقلانية التعامل مع معطيات الواقع الحالي لصدّ الزخم المريع من الأقاويل والتقوّلات والممارسات ضد الصحة الأخلاقية والصحة النفسية لإنسان هذا المشرق، الذي تتكالب على وعيه ضغوط الإحباط والخوف على مصيره ومصير وطنه وأبنائه.

إنَّ مسؤوليتنا الأخلاقية الإنسانية تدعونا كمشرقيين، عربا ومسلمين، إلى تغليب لغة الحوار المعرفي البياني على صعيد الإقليم، واتخاذ هذا الحوار آليّة نطوّرها معا بإخلاص الضمير والجهد لحلّ المشكلات، في سبيل استقرار وسلم داخليين تتجلّى فيهما قيم العدالة والتسامح والعيش المشترك وحق الاختلاف والتنوّع. وهذا ما سبق أن طالبت به أطراف الحوار التي تمثلت في نخبة من مثقفي العرب والتُرك والفُرس والكُرد والنشطاء الحقوقيين في لقائهم العام الماضي بعمّان بمؤتمر “أعمدة الأمّة الأربعة”، الذي بادر إلى عقده منتدى الفكر العربي، ومن قبل في لقاء “إعلان تونس” الذي أُطلِق خلال شهر كانون الأول (ديسمبر) 2016.

ولعل دعوة هذه النخبة الثقافية إلى العمل التشاركي في توصيف التحديات هو مبتدأ طريق وعي جديد لقيام مشرق عربي إسلامي تُسهم أطرافه في تحقيق أمنه الديمقراطي الإنساني بوصفه الأمن الحقيقي الضامن لأمن وأمان جميع هذه الأطراف المشرقية، والذي يكفل لكل قومية من القوميات الأربع حقّها في امتلاك هويتها الخاصة، والتعبير عن حقّها في تقرير مصيرها، في إطار من المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، ومراعاة مصالح الإقليم وأهدافه المشتركة أيضا، وضمن تنمية شاملة بكلّ ما تحثّ عليه من التزام بقواعد الاستدامة والحوكمة الرشيدة والتعاون الاقتصادي والتبادل العلمي والثقافي والتواصل الاجتماعي، والعمل لما فيه تحقيق التقدم الجماعي المشترك للدول ومجتمعاتها.

إنَّنا في حاجة إلى مأسسة مشروع ثقافي حضاري جامع، يُعيد لأمتنا ومنطقتنا دورها الإنساني والحضاري كما كانت مصدر إشعاع فكريّ في العصور الوسطى، ومركز ربط مستقلّ وفاعل بين الشرق والغرب، وإلا فإن أهميتنا الجغرافية والبشرية ومواردنا ستصبح بأيدي الآخرين، يتصرّفون بها حسب مصالحهم. وليس من طريق إلى ذلك سوى الخروج من الصمت والركود إلى فضاء حكمة الإشراق من شرقنا مقابل حكمة التنوير من الغرب، واستلال صيغة لحوار إنساني بيني بحثا عن مسار عودة الوعي والالتزام بالمسؤولية الأخلاقية والجهد التضامني في هذا السياق.

وتبعا لذلك علينا في مشرقنا العربي والإسلامي أن نطوِّر سياسات مبنيّة على احترام الثقافات ضمن إطار دستوري وقانوني يمكننا من تجاوز الخلافات، واتخاذ إجراءات مناسبة تجاه الانتهاكات الصارخة التي تؤدي إلى مزيد من نزيف الدماء البريئة، ووفق ما تقتضيه القوانين والدساتير أيضا.

الأمل بالله عزَّ وجلّ، أولا وآخرا، أن يعين هذه الأمّة على الخروج من معاناتها جراء الحروب والنزاعات والانقسامات التي أرهقت قدراتها، إلى نور التآلف والتواد والتراحم، ومع الأمل لا بد من العمل “وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ” صدق الله العظيم-سورة التوبة: 105.

صحيفة العرب