• 5 كانون الثاني 2020
  • أقلام مقدسية

 

بقلم : القاضي المقدسي فواز ابراهيم نزار عطية

 

إهتم الإسلام بالأخلاق اهتماما بالغا، حتى أن القرآن الكريم حين أثنى على الرسول صلى الله عليه وسلم لم يجد أبلغ ولا أرفع من قوله تعالى: (وإنك لعلى خُلق عظيم)، بل اختصر الرسول صلى الله عليه وسلم الهدف من رسالته في إيجاز بليغ، حيث قال " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".

بأثر الأخلاق بدأ فتح بعض البلاد في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه منها افريقيا، حيث فتحت مصر ثم تلتها الدول الاخرى حتى اصبحت عدد الدول الاسلامية 26 دولة، وتم فتح مصر بالمحبة والاخلاق لا بالسيف، وعندما أذن عمر بن الخطاب لقائد الجيوش الإسلامية في افريقيا عمرو بن العاص بالزحف إلى مصر سنة 639م، فأول ما تم له هو فتح العريش ثم حاصر الاسكندرية ثم تسلّمها من بطريرك الاقباط «المقوقس»، وكان المصريون قد عانوا الأمرين من الاحتلال البيزنطي لمصر، إذ كان البيزنطيون يفرضون الضرائب المثقلة، بل تجاوز الأمر الى فرضها على الأموات قبل دفنهم وعلى عبور الطريق مع الاضطهاد الديني للمصريين مع أن البيزنطيين والمصريين مسيحيون، فاستغاث المصريون بالمسلمين الفاتحين ورحبوا بهم، بل وأعانوهم على هزيمة البيزنطيين، ثم رأى المصريون الأقباط أخلاق المسلمين في تعاملهم وسماحتهم وحسن مقاضاتهم وعفتهم وقيم العدل والاخاء والمساواة مما لم يبصروه من المسيحيين أمثالهم، فانشرحت صدورهم للاسلام وراحوا يتوافدون على دين الله طوعا لا كرها، وتحول عدد كبير منهم من المسيحية إلى الاسلام وتغيرت اللغة القبطية إلى لغة القرآن، وبهذا تم الفتح بالاخلاق والقيم.

القصص كثيرة ولا يمكن حصرها في هذا المقال، فتجار المسلمين كان لهم أثر كذلك عند اهالي غانا، حيث اخلاق التجار المسلمين وقيمهم السامية، أدى إلى اعتناق قبيلتان من البربر الاسلام، وهما قبيلتا لمنونة وجودلة، فعملوا على نشر الاسلام في ربوع غرب افريقيا، وهذا هو النهج الذي سلكه المسلمون الأوائل في مختلف بقاع الارض، مما زاد انتشار الاسلام بالأخلاق لا بالسيف كما هو الحال في شرق أسيا وصولا إلى حدود فيينا.

من هذا المنطلق، يجب أن نقف على قول النبي صلى الله عليه وسلم «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، حيث كانت الاخلاق متوفرة في بعض المجتمعات قبل الاسلام منها لدى الفرس والعجم وغيرهم، ولكن جمع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم معيارا واحدا للسلوك الانساني ككل ووصفه الحق جلّ في علاه "وإنك لعلى خُلق عظيم"، فتغيّر ملامح التاريخ منذ بعثته، حيث جاء ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، وجاء فياضا بالخير صداحا بالحق، فائضا بالخُلق الكريم، وقد أتى مناسبا لكل أمة، مجتازا حدود الزمان والمكان، ليكون مناسبا لكل ظرف ولأي طرف مهما كان وأيا كان، وقد سعدت الأمة بهذا النور العظيم الذي منحها الهوية والكرامة.

تعاظم شأن الأمة وأصبحت من رواد الأمم في مختلف العلوم الدنيوية والدينية والعسكرية، شهد القاصي والداني لتقدم وازدهار المسلمين في مختلف مجالات الحياة، مما جعلهم قطب  الأول للعالم  لقرون.

يقول اليوم عدد من علماء الغرب، أنه لولا تقدم العلم في الدولة الإسلامية على مر قرون خلت، لما وصل العالم لهذا التقدم التقني في تكنولوجيا المعلومات والصحة و الفلك والرياضيات وباقي مختلف العلوم....بل زاد بعضهم أن في سمو الأخلاق والإخلاص في العمل حقق النجاحات والتقدم للمسلمين في وختلف نواحي الحياة في عصر اتصف به الغرب بالتخلف والرجعية.

من الجميل أن نستذكر أمجاد الماضي لسلفنا الصالح، لكن من الخزي والعار أن نرفض التأسي بسنة نبينا في الأخلاق الحميدة ومن سار على نهجه من السلف الصالح، فلا بد أن نعيد حساباتنا وأن نشارك بعضنا البعض بحُسن القيم الإنسانية في زمن أصبح فيه الأخلاق تجارة أو سلعة رخيصة لدى الغالبية العظمى من المسلمين، يُضطهد المسلم في كل مكان من بقاع الأرض والحكام والمحكومين في سبات، تُسلب الحريات في معظم العواصم الإسلامية والعربية مما يضطر أبناؤها من العلماء والتجار والصُّناع لهجرتها، للبحث عن الأمن والأمان في الغرب الذي امتازت حضارته اليوم بفيض العلوم وتقدمه، في الوقت الذي تهدم فيه القيم والأخلاق في مجتمعاتنا العربية والإسلامية بصورة ممنهجة ويصبح المُعلم نادلا لتلميذه في المقاهي والمطاعم وحدث بلا حرج......

نسير في طريق العولمة تحت مسميات كاذبة لحفظ حقوق المرأة، بحيث فتحت دكاكين المنظمات الغير حكومية لهدم الأسرة، وسببها بلا أدنى شك العصبية والتخلف الفكري للرجل، الذي زرع في فكره أنه رجل ويستطيع عمل كل شيئ ولا يعيبه أي شيئ، فهو هدم مبرج للفكر، ونسي مجتمعنا أن المرأة في الإسلام هي نصف المجتمع وسيدته، فهي الأم والأخت والبنت وهي المصون السيدة درة التاج، سارت مجتمعاتنا اليوم في درب ونفق الظلم والظلمات، فاليوم تحرم المرأة من الميراث وأصبح القتل عنوانا للشرف، وكأن الشرف للمرأة وحدها دون الرجل، فالجريمة الاخلاقية هي جريمة لا تمييز في الوصف إنما المجتمع سار على نهج التمييز في الجنس، سببه الفكر المنغلق وسببه الظلم والتخلف الفئوي، فمن أعطى الرجل حق القتل ومن اعطاه أن يصدر الاحكام دون بينة ... وكيف لمجتمع يستقيم حاله ويخفف عن القاتل بادعاء العصبية القبلية الجاهلية كيف لهذا المجتمع أن يُعرض عن تطبيق قول الله تعالى بأن جريمة الزنا "الشرف" تحتاج لأربعة شهود وكيف لهذا المجتمع الذكوري أن يستقيم أمره ويسمح للرجل بأعمال الفُحش تحت مسمى الرجل لا يعيبه شيئ......فكم من امرأة عفيفة شريفة قتلت دون ذنب وأثبت الطب الشرعي عفتها وشرفها...

 آفات المجتمع اليوم لا تعد ولا تحصى سببها الثقافة والتربية البيتية الخالية من الحب والعطف والحنان والأخلاق الحميدة، سببها التمييز بين الرجل والمرأة سببها الفكر الذكوري قبل الاستعمار، فاتسع الظلم وبدأت المجتمعات في مقاتلة ذاتها وحادت عن العلم والتقدم وأصبحنا فريسة سهلة للغرب وشيطنته، مما شاع الظلم والكذب والإفتراء والنفاق وسوء الاخلاق والقتل بسبب ودون سبب، ليس إلا لبعدنا عن الخُلق العظيم.

قلّ شأننا بين الأمم وأصبحنا عبيدا لا أسيادا، أصبحنا مستهلكين غير منتجين، فتداعت علينا الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، وبالتالي لن يتغيير حالنا إلا بالرجوع للأخلاق ونبذ المنكرات وعدم اتيانها وبضرورة تطبيق قوله تعالى "وإنك لعلى خُلق عظيم" كمنهاج حياة، فسيكون حالنا كما كان حال السلف الصالح في مقدمة الأمم.

لذلك قيل في الأثر: ما قرن شيء إلى شيء أفضل من إخلاص إلى تقوى، ومن حلم إلى علم، ومن صدق إلى عمل، فهي زينة الأخلاق ومَنبت الفضائل.