• 23 حزيران 2020
  • أقلام مقدسية

 

بقلم : عزيز العصا *

عندما استُكمل احتلال القدس إثر هزيمة عام 1967م، توجَّهت أنظار جميع الأطراف نحو المسجد الأقصى المبارك؛ فالمقدسيون وقادة المجتمع المقدسي اتجهوا نحو حمايته ومقاومة المساس به بأي شكل من الأشكال، والاحتلال والمستوطنون اليهود أخذوا يخططون للاستيلاء عليه بشتّى الطرق؛ بتقاسمه ثم بهدمه. فأخذ الصّراع مع الاحتلال يتصاعد بوتيرة عالية من الغضب الذي يبديه المقدسيون، ومن خلفهم الشعب الفلسطينيّ وأحرار الأمة في أسقاع المعمورة، الذين يرون في هذا المسجد قبلتهم الأولى التي لا يتنازلون عنها تحت أي ظرف.

يوم الخميس الموافق 21 آب (أغسطس) عام 1969م تعرّض المسجد القِبْليّ في المسجد الأقصى المبارك لحريقٍ مدبَّر استهدف المنبر ومحيطه، وكان المراد من ذلك هدم الجامع القبليّ والتَّخلص منه، بما يحمل من رمزيَّة التأسيس واللبنة الأولى التي وضعها الخليفة الثاني عمر بن الخطَّاب بعد تسلّمه لمفاتيح القدس –سلميًّا- من البطريرك صفرونيوس عام (15هـ/637م). إلا أن سرعة استجابة المقدسيين، ومن خلفهم الشعب الفلسطيني في المحافظات الأخرى، وانطلاقهم لمواجهة الحريق وإطفائه، مكَّنت من إنقاذ ما أمكن إنقاذه.

 وفي الجمعة التَّالية للحريق (29 آب (أغسطس) 1969م) أقام المسلمون صلاة الجمعة في باحات المسجد الأقصى المبارك، وخطب فيهم سماحة المرحوم "الشيخ سعيد عبد الله صبري"؛ وهو قاضي القدس الشرعيّ وعضو مؤسس في الهيئة الإسلامية العليا (التي أعلن عن تأسيسها في 24 تموز (يوليو) 1967م)، فكانت خطبة مؤثرة جدًّا دعا فيها الخطيب إلى الوحدة والتكاتف والالتفاف حول المسجد الأقصى المبارك، من أجل حمايته مما يحاق له من مؤامرات. استمرّ الشيخ سعيد خطيبًا للمسجد الأقصى المبارك، إلى جانب خطباء آخرين، واستمرّت الخطب الجمعة بلا منبر.

في 19/03/1973م انتقل الشيخ سعيد صبري لبارئه رحمه الله. ومنذ 04/05/1973م أصبح نجله الشيخ عكرمة خطيبًا من خطباء المسجد الأقصى المبارك، وحمل هذا اللقب عن جدارة ومقدرة في اجتذاب المصلّين لما يطرحه من قضايا معاصرة، ومواقف مناوئة للاحتلال وداعية إلى تماسك المجتمع المقدسي وتعاضد المقدسيين من أجل المحافظة على هويتهم الدينية والوطنية. واستمر الشيخ عكرمة في الخطابة إلى جانب عمله التربويّ والخيري في المؤسسات المقدسية المختلفة. وعندما قدمت السلطة الوطنية الفلسطينية عام 1994م تولّى دائرة الإفتاء الفلسطينية حتى عام (2006م)، وتخلل هذه الفترة أن آلت إليه رئاسة الهيئة الإسلامية العليا عام 1998م.

إلى جانب الخطب المناوئة للاحتلال والرافضة لممارساته العدوانية بحق القدس والأقصى والشعب الفلسطيني بشكل عام، أصدر الشيخ عكرمة ما يزيد عن ثلاثة آلاف فتوى دينية خطّيّة مكتوبة في مختلف الموضوعات؛ تعالج القضايا المجتمعيّة، وتسهم في إدارة أزمات المجتمع المسلم ومعضلاته.

أما الفتاوى التي نحن بصددها، فهي تلك المتعلقة بالقضايا الدينية ذات البعد الوطني، والتي تصب في هدف رئيس يتعلق بالدفاع عن القدس من التهويد أو تلك التي تعزز الحالة الوطنية الفلسطينية وتصونها. فهناك من الفتاوى تلك المشبعة بالسياسة؛ كفتوى اعتبار التعويض عن الأرض كبيعها لا يجوز شرعاً، وتحريم أخذ التعويض عن البيوت المهددة بالإخلاء من قبل الاحتلال، والإخراج من الملَّة لمن يبيع الأراضي أو العقارات للأعداء أو السمسرة لهم. ومن حيث العلاقة بالاحتلال والتطبيع معه، أفتى الشيخ عكرمة بتحريم التجنّس بالجنسية الإسرائيلية، وتحريم فكرة الوطن البديل وتبادل الأراضي مع الاحتلال وغير ذلك من الفتاوى ذات الصلة بالأرض، بشكل مباشر أو غير مباشر.

وأما المسجد الأقصى المبارك فقد حظي بالنصيب الأكبر من جهد الشيخ عكرمة وفتاواه؛ كالفتوى التي تحسم أمر المسجد الأقصى المبارك على أنّه للمسلمين وحدهم، وأنَّه لا يحقّ لأيٍّ كان مشاركتهم فيه، وقد استند الشيخ عكرمة في هذه الفتوى، التي أصدرها في العام 1421ه/2001م، إلى إجماع علماء الأمة الإسلامية على أن "الأرض التي يبنى عليها المسجد هي وقف إسلامي: ظاهر الأرض وباطنها وسماؤها، وما بني على الأرض وأسوارها وساحاتها وأشجارها وكافة مرافقها فكلها وقف إسلامي". والفتوى القائلة بأن حائط البراق وقف إسلامي محض، وجزء من السور الغربي الخارجي للمسجد الأقصى المبارك، وهناك فتوى تؤكد على أنّ العمائر المحيطة بالأقصى تأخذ حكم الأقصى. كما خصَّ الشيخ عكرمة المسجد الأقصى المبارك بفتوى تحضّ المسلمين على شدّ الرحال إليه، وجوب نصرته وتحريم خذلانه.

الاحتلال من جانبه يراقب ويرصد كل ما يجري من أفعال وأقوال، فكانت وسائل إعلامه، ومنذ أن كان الشيخ عكرمة مفتيًا، تحرض ضدَّه، وكانوا يطلقون عليه: مفتي ياسر عرفات! وأحياناً يقولون: مفتي السلطة الفلسطينية!! وحصل في العام 1999م أن قاد "نتنياهو"، الذي كان رئيس حزب الليكود الصهيونيّ آنذاك، حملة تحريضية ضد الشيخ صبري-المفتي عندما كان يداوم داخل المسجد الأقصى المبارك، وصلت إلى أروقة الأمم المتحدة[1].

لم يرق للاحتلال أن يرى على منبر المسجد الأقصى المبارك، وفي ساحاته وباحاته، من يصدح بكلام حق يواجه به الاحتلال ويفضح ممارساته التي تتناقض مع أخلاق الحروب والمحاربين. ولما كان الشيخ الدكتور عكرمة صاحب رؤى على المستويات كافة؛ الدينية والفكرية والسياسية، فإنه من الطبيعي أن يقوم الاحتلال بتسليط الضوء عليه ومتابعة خطواته كافة، ويُتبع ذلك بوابلٍ من الإجراءات التعسفية بحق هذا القائد المقدسي، التي بدأت منذ استدعاه مستشار وزير الشرطة الاحتلاليّ في تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1973م حتى يومنا هذا، منها:

أولًا: قرارات احتلالية عسكرية بالإبعاد عن المسجد الأقصى المبارك؛ تهدف إلى حرمان الشيخ عكرمة من إلقاء خطب الجمعة، وألا يلتقي بالمصلين المسلمين، لتصور الاحتلال بأن في ذلك "تحريضًا وإخلالًا بالأمن العام!" حسب زعمهم. وآخرها الإبعاد الحاليّ (في أيار (مايو) عام 2020) لمدة أربعة أشهر.

ثانيًا: قرارات احتلالية عسكرية بالمنع من السفر؛ بحجة ألا يتصل الشيخ بأي جهة معادية للاحتلال حسب زعمهم. ويتأكد ذلك من خلال "التهم!" التي بناء عليها يتم "تبرير!" قرار المنع الذي يمتد حتى بضعة أشهر.

ثالثًا: استدعاءات الشرطة الاحتلالية للتحقيق؛ وهي عبارة عن محاولات بث الرعب والخوف في نفس الشيخ؛ بهدف ثنيه عن إصدار الفتاوى والخطب والمواقف الدينية والوطنية التي ترفض الاحتلال وتفضح ممارساته اليومية، وتحث المواطنين على الصمود والمواجهة.

لقد تركت تلك الإجراءات الاحتلالية التعسفية أثرًا غاضبًا في نفوس أبناء الأمة، الذين أخذوا يرون في الشيخ عكرمة عنوانًا ورمزًا للشجاعة والإقدام في مواجهة العدوان السّافر من الاحتلال على الرمزيّة الدينية الإسلامية في القدس، وممّا عزَّز تلك المشاعر وأجَّجها قيام سلطات الاحتلال خلال أزمة جائحة الكورونا في هذا العام (2020م) بمداهمة منزل الشيخ عكرمة واعتقاله احضاره بالقوة إلى مركز التحقيق، ثمّ إبعاده عن المسجد الأقصى المبارك، وحرمانه من الصلاة والإمامة لمدة أربعة أشهر (بدءًا بأيار/ 2020).

في هذه الأجواء من الغضب على الاحتلال وممارساته اجتمع ما يزيد عن ثمانمائة عالم من علماء الأمة في نحو (64) بلدًا، اجتماعًا افتراضيًّا عبر الفضاء، واحتفوا بالشيخ عكرمة باعتباره رمزًا للصمود والمقاومة والإصرار على إسلاميَّة المسجد الأقصى المبارك. وبعد النقاش والتداول وتبادل الرَّأي والمشورة أجمع الحضور على منح الشيخ د. عكرمة سعيد صبري لقب "أمين المنبر"، مع كل ما يتبع هذا اللقب من سمات وخصائص ومعانٍ ذات عمقٍ إيمانيّ ودينيّ ووطنيّ يخصّ منبر المسجد الأقصى المبارك، ومنابر مساجد المسلمين بشكل عام.

إنَّ الشيخ الدكتور عكرمة صبري كان، ولا يزال، حريصًا كل الحرص على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلَّم بشكل عام ومنبر المسجد الأقصى المبارك على وجه الخصوص. ومن هنا جاء هذا اللقب "أمين المنبر" نتاج قناعة من علماء الأمَّة، وهذا ما يضاعف المسؤولية على عاتق سماحة شيخنا الجليل، الذي كان حريصًا كلّ الحرص على أن يبقى هذا المنبر بوصلة الأمة، في أقطارها كافَّة، وحاديها في مواجهة أعدائها والمتربصين بها، الذين يحيطون بها من كل حدب وصوب ومن فوقها ومن أسفلها. أعان الله شيخنا الجليل الدكتور عكرمة صبري وجعله قرَّة عين أمته التي ترى فيه عنوانًا لها في مواجهة البطش والظلم الواقع على فلسطين وأهلها بشكل عام، وعلى القدس والمقدسيين على وجه الخصوص.

إذا ما علمنا أن المنبر جزء لا يتجزَّأ من أي مسجد، وهو أحد أهمّ المعالم العمرانيّة في الإسلام، التي تطوَّرت عبر الزمن. وأنَّ المنبر يشكّل رمزيَّة عالية في الخطابة وتوجيه المجتمع نحو الفضائل والقيم العليا. وتسمو قيمته ويتعمَّق دوره عندما يعتليه الخطيب متحدّثًا في القضايا الكبرى التي تحدد اتجاه بوصلة الأمة، وتوجّه مسار الأحداث الكبرى. وإذا ما علمنا بأنَّ منبر المسجد الأقصى المبارك، الذي صنعه نور الدين زنكي، عندما كان المسجد الأقصى أسيرًا مكبَّلًا بأصفاد الفرنجة الصليبيين، ووضعه في مكانه الحاليّ صلاح الدين الأيّوبيّ المنتصر على الصليبيين. فإننا حينئذ ندرك القيمة السامية العليا لهذا اللقب "أمين المنبر"، وحجم الأمانة والمسؤولية وثقلهما التي تقع على عاتقنا جميعًا؛ لما يتطلّبه الأمر منَّا من دعم وإسناد لتوفير استحقاقات هذا اللقب الذي يقع على عاتق المقدسيين جميعًا ومن خلفهم الشعب الفلسطيني وأحرار الأمة في كلّ مكان.     

*مسؤول الثقافة والاعلام في الهيئة الإسلامية العليا