• 9 تموز 2020
  • أقلام مقدسية

 

بقلم : د. لبيب قمحاوي

                         

  لم يعد في مقدور معظم الناس التعامل بأريحية مع وضع عام يتفاقم في سوءه وفي ظُلمِهِ الشديد  كونه يضع الناس تحت ضغوط  الَحَدث سواء أكان ذلك الحدث وبائياً  أم اقتصادياً أم سياسياً  دون ذنب اقترفوه سوى أنهم كانوا موجودين هناك  في وقت وزمان وقوع الحدث ، حتى ولو كان ذلك الوجود على هامش الحدث نفسه دون أي قدرة على تغيير مساره حتي لو توفرت الرغبة في ذلك .

 نحن نفهم ونقدر بأن الدولة الأردنية  تمر بأزمة مالية خانقة وشح في المداخيل تفاقمت نتيجة لطول فترات الاغلاق التي أعقبت انتشار وباء الكورونا ، ولكننا نفهم ونقدر بالمقدار نفسه بأن المواطن الأردني يمر هو ايضاً بأزمة مالية وحياتية خانقة وأنه أصبح غير قادر فعلاً  على تلبية متطلبات الحياة  حتى في حدودها الدنيا له ولعائلته بشكل مستمر أو مأمون ، ناهيك عن قدرته على دفع الضرائب الهائلة المفروضة عليه من قبل الحكومة .

الحكومة الأردنية إذاً بحاجة الى الدخل وبالتالي الى تحصيل الضرائب ، والمواطن الأردني بحاجة الى الدخل وهو بالتالى غير قادر على دفع ما يتوجب عليه من ضرائب وهي في أصولها باهظة . ما هو الحل لهذه المعضلة ؟؟ المطلوب الآن الخروج بمعادلة أو بتصور يسمح لكلا الطرفين بالاستمرار في الحياة  وان كان ذلك ضمن المحددات القائمة .  

 من هو المسؤول عن مَنْ  ؟ هل المواطن مسؤول عن الدولة وحاجاتها  ومتطلباتها ؟ أم أن الدولة هي المسؤولة عن المواطن وحاجاته ومتطلباته وأمنه ؟ على من تقع المسؤولية  أولا ؟  ومن هنا يجب أن نبدأ من خلال تحديد  أولوية المسؤولية .

 المسؤول أولاً وأخيراً عن المواطن الأردني وحماية أمنه ومصالحه هي الحكومة . فالحكومة في خدمة الشعب وليس العكس . وعندما يصبح الشعب في خدمة الحكومة تأخذ الأمور منحىً خطيراً بعيداً عن المنطق وعن الواقعية وفي اتجاه نظام دكتاتوري مستبد ومارق . وفي هذا السياق  واذا كانت الدولة تملك أدوات القوة التي  تسمح لها بمحاكمة أو ملاحقة المواطن الذي  يخالف القانون أو يمتنع عن القيام  بمسؤولياته حسب ما تراه الدولة مناسباً ، فما هي أدوات  القوة  التي يملكها المواطن لمحاسبة المسؤولين في الدولة إذا ما أخلوّا بالتزاماتهم تجاه المواطنين أو فشلوا في القيام بواجباتهم أوخالفوا القانون أو تعدّوا على المال العام خصوصاً في ظل غياب القنوات والادوات الفاعلة التي توفرها الديموقراطية ؟  

 لا تستطيع الحكومة الأردنية أن تلوم أحداً على ماهي فيه الآن أو على الوضع المتردي الذي وصل اليه الاقتصاد الأردني .  فما نحن فيه هو محصلة إما لسياسات الحكومات الأردنية المتعاقبة ، أو لغياب السياسات الحصيفة أصلاً . المشكلة في أصولها تكمن في أن كل حكومة تحاول أن تحل مشكلتها الآنية بالضرائب ، وتترك الحلول الاقتصادية الحقيقية والصعبة لمن يأتي بعدها . وقد أدى تراكم هذا المسار الى الوصول الى ما نحن  فيه  الآن من فشل إقتصادي بعد أن تم التوجه لمدد طويلة نحو الخيارات الأسهل في الاستدانه الداخلية والخارجية أو الجباية الضرائبية .

 الحديث عن المديونية العامة ، أو الفساد ، أو التدهور الاقتصادي  أو الافتقار الى القدرة  على توجيه  التنمية المحلية بشكل سليم ،  كل هذا وغيره  يقع  ضمن مسؤولية  الحكومة .  منطق  الجباية   والضرائب العشوائية قد أصبحت  نمطاً  ملحوظاً في  تفكير الدولة  وسلوكها وأمراً مرهقاً  للمواطن وللمستثمر معاً . الضريبة  بحد  ذاتها يجب ألا تكون خيار الحكومة الأول بل الأخير كونها يجب أن تأتي  مكملة  لخطط التنمية الاقتصادية  وليس بديلاً عنها  كما  أصبح عليه الحال في الأردن خلال  السنوات الأخيرة . 

لقد فشلت الحكومات الأردنية المتعاقبة على مدى العقدين الأخيرين في تبني سياسات و برامج تنمية اقتصادية تؤدي الى دعم استقلال الأردن الاقتصادي وتخلصه من الاعتماد على الغير . وعلى العكس من ذلك ، فقد تمت خصخصة وبيع العديد من المشاريع الوطنية التي شكلت عماد التنمية في الأردن وبأبخس الأثمان .

ما العمل في ظل هذا الخلل الواضح في المعادلة علماً أن التدميرعادة ما يكون أسهل وأسرع بكثير من  البناء . وأن تدمير ما تم  بناءه من إستثمارات للشعب  الأردني على مدى عقود في القطاع العام والمشاريع التنموية من خلال خصخصتها وبيعها  قد تم  بسرعة فائقة  وبأساليب غامضة و إرتجالية لا يمكن تبريرها ، واعادة بنائها  أمراً سوف يستغرق وقتاً طويلاً تقف الحكومة خلاله في العراء منتظرة الفرج  في نفس الوقت الذي يقف فيه المواطن الأردني عاجزاً عن تلبية احتياجاته الخاصة  ناهيك عن احتياجات  الدولة وأهمها الضرائب المختلفة . وهكذا ،  فإن استعادة ما فقدته  الدولة من خلال  برامج الخصخصة يبدوا خياراً  أكثر  واقعية  وعملية  من اعادة  بنائها  مجدداً . ولكن هذا التطور لن يكون بالنتيجة  منتجاً إلا اذا تم قطع دابر الفساد بشكل حاسم ونهائي ، وإلا  أصبح القطاع العام مجدداً مرتعاً للفساد وللفاسدين ووسيلة للتكسب والمحسوبية .

 يهدف هذا الحديث الى مساعدة الحكومة على تبني خيارات اخرى ممكنة . أما إذا كانت الحكومة غير راغبة في ذلك واختارت إما أن تتجاهل النصيحة أو أن تعتبرها عدواناً على حقها في حكم البشر كما تريد وترغب ، وتحميلهم تبعات أخطائها الاقتصادية وقصورها في أداء مسؤولياتها فإن هذا شئ آخر . وفي نهاية الأمر فإن مثل ذلك السلوك الحكومي فيما لو حصل يعني أن باب الحوار السلمي قد أُغلق لصالح البطش وسياسة العصا الغليظة المحكومة نتائجها بالفشل مهما طال أمدها .

 السعي نحو إعادة بناء الاقتصاد الأردني هي مسؤولية مشتركة بين الحكومة والشعب . وهذا يتطلب معادلات متوازنة بين التشريعات والاجراآت والحوافز والسياسات التي تشجع المواطنين على الاستثمار دون أن يكون هدف الحكومة  من  ذلك  محصوراً  بتحصيل  المزيد  من  الضرائب . ويبدو أن معظم المسؤولين الأردنيين المعنيين لا يفقهوا شيئاً  سوى الضرائب وكيفية  زيادتها  وتحصيلها أو  الاستدانة الداخلية والخارجية وليس خلق البيئة المناسبة  للإستثمار . وهذا الأمر يتطلب ، وبصدق ، التخلص من هذه العقلية في التفكير ومن المسؤولين عن فلسفة الجباية حصراً وهم الآن وللأسف على راس الجهاز المالي والضريبي في الأردن .

 تفترض عملية إعادة بناء الاقتصاد الأردني المشاركة بين أطراف المعادلة ، وهذا يتطلب  في المقابل توفر الثقة  الشعبية في نوايا الحكومة تجاه عملية تحفيز الإستثمار وحمايته وكذلك ضمان  إستقرار الأنظمة والتشريعات الناظمة  لتلك العملية .  الثقة في هذه الحالة لا تبُنى إلا بالممارسة ومن خلالها مما يضع تلك المسؤولية على الحكومة وأجهزتها أولاً وليس على المواطن المثقل بالأحمال والهموم .  إن تحصيل حقوق الدولة يجب أن لا يأتي على شكل فزعات موسمية ، وانما كسياسة  رصينة وجادة تتعامل مع الجميع بقدر متساوٍ من الحزم وإحترام القانون في إطار من العدالة الشفافة الشاملة . وهذا الحديث يشير تحديداً الى سياسة الحكومة الأخيرة في التعامل مع الفساد الكبير المتمثل في التهرب الضريبي لبعض الشركات والمؤسسات الكبيرة العاملة  في  البلد .  التطورات الأخيرة  تثلج  صدور الكثيرين في الأردن كونها تؤشرعلى جدية الدولة في التعامل مع بعض ملفات الفساد الكبير ، ولكنها في الوقت نفسه تثير العديد من التساؤلات فيما إذا كان ذلك نهجاً جديداً للدولة أم أنها عاصفة في فنجان أم نزوة حكومية عابرة . والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المجال يتعلق بالتوقيت . لماذا الآن ؟ وهل اكتشفت الحكومة فجأة تهرب كل تلك الشركات من الضريبة ، أو قيامها  بعمليات غير قانونية أدت الى حصولها على أموال هائلة بدون وجه حق ،  أم أن الحكومة كانت  تعلم  وتجاهلت الموضوع طوال  السنوات الماضية لأسباب مجهولة ؟ وعلى أية حال وسواء أكانت الحكومة تعلم أو لاتعلم ، فإن هنالك تقصيراً واضحاً ناتجاً عن إهمال وقصور في تطبيق القانون سواء تم ذلك عن قصد أو بدون قصد .

على الحكومة أن تعلم وأن  تعي  أن محاولة  سد العجز المتنامي  في مداخيل الدولة من جيب المواطن هي دعوة  لتأجيل السقوط الاقتصادي وليس وسيلة لمنع حدوثه . تستطيع الحكومة الاصرار على عصر المواطن حتى آخر نقطة ،  ولكن ماذا بعد ذلك ؟ التهديد بالعصا الغليظة ممكن مادام هنالك شئ في جيب المواطن ، ولكن العصا لن تنفع أبداً إذا لم يعد في جيب المواطن ما يعطيه  سواء برضاه أو بالرغم عنه . البديل الحقيقي للجباية هي الاستثمار الحكومي في المشاريع العامه والانتاجية  ذات العائد بالاضافة إلى خلق الحوافز من خلال التشريعات والسياسات المالية والاقتصادية للقطاع الخاص المحلي وللمستثمرين العرب والأجانب للقيام بمشاريع استثمارية خصوصاً تلك التي تتمتع بقيمة مضافة عالية للشق الأردني سواء كعمالة أو مواد خام دون أن تشكل عبئاً على الموارد الشحيحة مثل المياه . هنالك الكثير مما يمكن قوله وفعله إذا ما توفرت الإرادة  والرؤيا الصحيحة على إفتراض أن الحكومات التي يتم تشكيلها مؤهلة لفعل ذلك  . إن المشاكل التي يعاني منها الأردن الآن معقدة ومركبة وتعاني من الفشل الواضح  في خلق  جهاز اداري ديناميكي وكفؤ يستطيع أن يتعامل مع متطلبات التغيير والتطوير بكفاءة  . إن تطوير الجهاز الاداري هو أمر في غاية الأهمية والخطورة لأن  الاصلاح  الاقتصادي المطلوب لا يمكن أن يتم بجهاز اداري مترهل .

 البحث في الذات أمر محمود ومطلوب لأنه المدخل الصادق للمكاشفة ومحاسبة النفس وبالتالي العمل على اصلاح الخلل . ولعل من المفيد أن تتحول خلوات الحكومة من نهج غامض في محتواه وأهدافه ، الى جلسات للمكاشفة والمحاسبة والبحث في الذات الوطنية وليس المنصبية