• 13 تموز 2020
  • أقلام مقدسية

 

بقلم : القاضي المقدسي  فواز ابراهيم نزار عطية

 

ما من شكٍ أن تصريحات احد رجال الدين المسيحي قبل يومين أثار جدلا واسع الانتشار بين مؤيد ومعارض لها، وبمعزل عن تلك التصريحات التي قد تكون زلة لسان نتيجة سوء التقدير للموقف، مما دفع ببعض المتربصين   الى قطف ثمار تلك التصريحات لتأجيج حالة احتقان في المجتمع المقدسي ولخلق صراع ديني لم يفلح المحتل الاسرائيلي بزرعه وتنميته منذ عقود.

القدس اكبر من تفاهة ونفاق بعض المتشدقين من اصحاب الفكر العلماني المتطرف، الذين نسوا قضية القدس وتمسكوا بشأن داخلي بحت لدولة تُسيّر شؤونها الداخلية بمعزل عن رأيهم أو رأي أي دولة اخرى.

ما يُعنيني في هذا المقال، هو الوقوف على صحة وقف " ايا صوفا"، وفيما إذا يعتبر فعلا وقفا خيريا صحيحا أم غير ذلك، باعتباري باحثا متخصصا في الوقف وشؤونه، حيث يستدعي في هذا المقام، الاشارة ونقل وجهات النظر المختلفة بكل امانة علمية، للوصول إلى الحقيقة التي يجب أن تصب ضمن القالب القانوني السليم دون نفاق أو تحيز لأي طرف.

 اشار البعض من خلال دراسات منشورة، على أن السلطان محمد الفاتح عندما حوّل الكنيسة إلى جامع، تم التحويل بصفته صاحب السلطة الأعلى والسيادة الكاملة ، حيث ترجم الدكتور عبدالله معروف وثيقة شراء كنيسة آيا صوفيا من قبل السلطان محمد الفاتح، التي هي عبارة عن سند الطابو الذي أصدرته الجمهورية التركية الحديثة عام 1936 م - أي بعد تحويل أيا صوفيا من مسجد إلى متحف، وعلى يد ذات الحكومة التي حولت المسجد إلى متحف-  بأن سند الطابو ليس فعليًا سند شراء، فالسلطان محمد الفاتح أوقف المكان في وقفيته الشهيرة باعتباره الملك وصاحب السيادة والسلطة العليا في الدولة وصاحب الحق المطلق في التصرف بممتلكات الدولة حسب المعمول به في ذلك الزمان، ولذلك فإن أي ادعاء بأن السلطان الفاتح اشترى هذا المكان هو ادعاء غير مقبول تاريخياً ولا يقوم على دليل، رغم تسجيلها في سجلات الدولة عام 1462م .

رأي آخر، يشير ويرى إلى أن السلطان محمد الفتاح وبناء على نص حجة في احدى صفحات الوقفية، التي يرجع تاريخها إلى 1/6/ 1453، قد فيها من خلال نصوص وصياغة حجة الوقف العبارات التالية :

" أي شخض قام بتغيير هذه الوقفية التي حولت آيا صوفيا إلى مسجد، أو قام بتبديل إحدى موادها، أو ألغاها أو حتى قام بتعديها، أو سعى لوقف العمل بحكم الوقف الخاص بالمسجد من خلال أي مؤامرة أو تأويل فاسق أو فاسد، أو غير أصله، واعترض على تفريعاته، أو ساعد وأرشد من يقومون بذلك، أو ساهم مع من قاموا بمثل هذه التصرفات بشكل غير قانوني، أو قام بإخراج آيا صوفيا من كونه مسجدًا، أو طالب بأشياء مثل حق الوصاية من خلال أوراق مزورة، أو سجله (المكان) في سجلاته عن طريق الباطل أو أضافه لحسابه كذبًا، أقول في حضوركم جميعًا أنه يكون قد ارتكب أكبر أنواع الحرام واقترف إثمًا ...ومن غيّر هذه الوقفية شخصا كان أو جماعة، عليه أو عليهم إلى الأبد لعنة الله والنبي والملائكة والحكام وكل المسلمين أجمعين، ونسأل الله ألا يخفف عنهم العذاب، وألا ينظر لوجوههم يوم الحشر، ومن سمع هذا الكلام، وواصل سعيه لتغيير ذلك، سيقع ذنبه على من يسمح له بالتغيير، وعليهم جميعًا عذاب من الله، والله سميع عليم".

حيث يرى الرأي الآخر وهو الاغلب، بأن العبارات التي خُطت فيها حجة الوقف تؤكد على أن الواقف قد تصرف في ملكه الخاص، مما يجعل من رواية شراء الكنيسة اقرب للواقع بدلالة النصوص الواردة في الوقفية، وعلى هذا النهج اوقف المسلمون عقاراتهم في مختلف دول العالم، واستخدموا ذات الصياغة عند التحذير من التبديل والتغيير في رغبة ومشيئة الواقف، الامر الذي صنف هذا النوع من الوقف وقفا صحيحا، سواء اكان ذريا أو خيريا، على أساس أن الواقف قبل عملية اجراء حبس العقار لجهة خيرية أو على ذريته كان يملكه أو من ضمن املاكه.

وبمعزل عن الروايات التي يدعيها كل طرف، فالحقيقة وشواهدها تبقى سيدة الموقف، على سبيل المثال لا الحصر، روي في كتب التاريخ على أن آيا صوفيا كانت مهجورة وخرابة قبل اعمارها للمرة الثالثة لمدة تزيد عن 300 سنة، كما روت كتب التاريخ أن استعمال الصرح كجامع على مدار 400 عام دون الاشارة إلى وقوع نزاع حول طبيعة ملكية المبنى والاثار المترتبة عليه، ما بين الامبراطورية العثمانية وباقي ممالك الارض خلال تلك الفترة، كما اشارت كتب التاريخ حديثا أنه بعد إلغاء الخلافة الاسلامية من مصطفى كمال اتاتورك وتقييد الشعائر الدينة الاسلامية في مختلف البلاد في تركيا الحديثة، وتحويل مسجد آيا صوفيا لمتحف في سنة 1934، وعدم مطالبة الكنائس المسيحية المختلفة وعلى وجه التحديد الكنيسة الارثوذكسية في مشارق الارض ومغاربها بحق استرداد العقار "أيا صوفيا" أو الاحتاج على تحويله إلى متحف منذ عام 1934 حتى اليوم، يجعل من رواية شراء العقار اقرب للتصديق من أية رواية اخرى، لا سيما وأن الفرصة كانت مؤاتية وقوية و مناسبة وسهلة لرد العقار في ظل سطوع نجم مصطفى كمال اتاتورك، الذي ألغى و عدّل كثيرا في الفكر والعقيدة الاسلامية وحول بلاده "تركيا" إلى الفكر العلماني، وسار على نهجه عدد من الحكام الاتراك لعقود طويلة.

وعليه الشواهد المادية آنفة الذكر، بالاضافة للوثيقة التركية إبان حكم مصطفى كمال اتاتورك الصادرة عن دائرة تسجيل الاراضي في الدولة التركية عام 1936،  تؤكد حقيقة ساطعة بأن آيا صوفيا تم شراؤها من قبل السلطان محمد الفاتح، وليس كما ورد في دراسة الباحث عبد الله معروف الذي توصل لنتيجة خاطئة لا تمت للحقيقة بصلة.

بناء على ما تقدم، يستدعي توجيه الاسئلة الموضوعية بعمق، بعد قراءة المشهد بين ثنايا قرار المحكمة الادارية العليا التركية وبين فكر السياسة التركية الحالية برئاسة طيب رجب اردوغان، نتيجة استغلال الاخير للحكم القضائي سالف الذكر لأمور سياسية داخلية، مما يعد في نهاية المطاف شأنا داخليا تركيا، الامر الذي يبقى السؤال الأهم المتداول على طاولة اهل القدس اليوم في ظل ما انتشرعلى منصات التواصل الاجتماعي كانتشار النار في الهشيم، لأقوال وتصريحات بعض رجال الدين من المسيحيين والمسلمين، وما تبعه من نفاق مزدوج لأتباع كل طرف ما بين مؤيد ومعارض لتلك التصريحات.

اقول بحق موجها خطابي لكل متربص أفاك مستغل لزلة لسان مقصودة أو غير مقصودة هنا أو هناك، بأن استغلال تصريحات رجل الدين المسيحي في القدس قبل يومين قد تُتخذ كبوصلة يتم استغلالها للتفرقة واشعال فتيل الفتنة بين المجتمع المقدسي بتكوينه المسيحي الاسلامي.

فإنني  اخشى ما اخشاه أن تكون تلك التصريحات سببا في نسيان القضية العالمية الكبرى وهي قضية القدس، لأن المحاولة في تمزيق النسيج الاجتماعي من بعض المُتحكمين الضالين، قد تفلح في طي مسلسل استمرار تسريب العقارات الخاصة بأملاك المقدسيين الفلسطينين من ابناء الطائفة المسيحية الارثوذكسية وغيرها وكذلك قد تكون زلة اللسان تلك غطاء لما يتم من بعض المسلمين  في حي سلوان جنوبي المسجد الاقصى المبارك من عمليات تسريب في تلك المنطقة، وقد يتم تحريف توجيه بوصلة الحدث المرعب الكئيب الذي تم قبل اسبوعين فيما يعرف بصفقة العار الخاصة بأملاك  الوقف المسيحي داخل منطقة باب الخليل.

اعتقد جازما أن حسن النوايا يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، ويجب أن تكون حاضرة عند  وقوع الاخطاء هنا وهناك، وزلة لسان يجب أن يتم التجاوز عنها فمن منا بلا خطيئة، في الوقت الذي يجب أن يعيد قراءة التاريخ لمن تناساه، بأن المواقف الجليلة للمطران هيلاريون كابوتشي العربي السوري المسيحي، الذي عُين مطرانا لكنيسة الروم الكاثوليك في القدس عام 1965، وعُرف عنه بمواقفه الوطنية في القدس خاصة وفلسطين عامة، والذي عمل سرا على دعم المقاومة الفلسطينية بتهريب للسلاح للمقاومة إلى أن اعتقلته قوات الاحتلال الاسرائيلي، وحكمت عليه المحكمة العسكرية بالسجن لمدة 12 سنة عام 1974، قضى منها 4 سنوات وبعد ذلك نُفي عن فلسطين.

كما يجب ألا ننسى موقف امير المؤمنين عمر بن الخطاب عندما استلم مفاتيح القدس من بطريركها صفرونيوس الارثوذكسي عام 636 ميلادي، ورفضه الصلاة في كنيسة القيامة وصاغ العهدة العمرية التي تُعتبر اقدم وثيقة دولية ارست مبادئ حرية الفكر وحرية العقيدة وحرية الحركة بأمن وامان بما سطرته حروفها من نفحات نورية، كما ويجب ألا ننسى - لمن لا يعرف التاريخ - الوثيقة العثمانية المحفوظة في سجلات المحكمة الشرعية التي تنبأ سجلاتها عن واقع التعايش بأمن وأمان بين مختلف اتباع الدولة العثمانية دون تمييز أو محاباة في القدس خاصة وفي فلسطين عامة.

ويجب ألا ننسى أن الدولة العثمانية لم تمنع اجراء ترميم عقارات الوقف المسيحي بما في ذلك الكنائس، كما لم تمنع من التوسع العمارني داخل اسوار البلدة القديمة وخارجها لجميع الطوائف المسيحية، كما لم تمنع الدولة العثمانية الطوائف المسيحية من شراء العقارات في القدس القديمة ابان حكمها لمدة 400 عام، ولم تمنع أي مسيحي من شراء العقارات في القدس القديمة،.

إذ يجب أن يعرف التاريخ الحقيقي كل متربص أفاك منافق وكل من يحاول تزيف حقيقة التاريخ، بأن سجلات المحكمة الشرعية وثقت بما يعزز صحة امتلاك الطوائف المسيحية بما لا يقل عن 34% من عقارات البلدة القديمة في القدس الشريف، ناهيك عن العقارات الممتدة بين اطراف فلسطين التاريخية، فلم تنتقم الدولة العثمانية من النصارى العرب في القدس واكنافها ولم تحول كنائسهم لجوامع أو لمقرات غير دينية، كما تم على أيادي بعض الاوروبين في الاندلس عام 1492 ميلادي بتحويل المساجد لحانات وكنائس وملاهي...كما لم تنتقم الدولة العثمانية وقبلها الدولة الايوبية من أي مسيحي عربي نتيجة بطش الحملات الصليبية وقتلهم تحت مسمى الصليب كذبا وافتراءا باسم الدين المسيحي اكثر من 70 الف مسلم في باحات المسجد الاقصى.

قائمة حسن الجوار وحسن المعاملة تطول ولا تحصى، لكن لا بد من الاشارة لواقع لا يعلمه الغالبية العظمى من المسيحين والمسلمين، إلا من اطلع على واقع سجلات المحكمة الشرعية التركية بتعمق، حيث فطنة القاضي الشرعي ابان الدولة العثمانية وسيره على نهج الاسلام السليم، منع كارثة لا يعلمها مسيحي القدس إلا شخص واحد ارسلت له الوثيقة قبل عامين من ابناء الطائفة السريانية الذي تربطني به رابطة محبة واخوة، فقبل 200 سنة من اليوم، وعندما كانت طائفة السريان تمتلك قنديلان فوق حجر المغتسل في كنيسة القيامة، قامت تلك الطائفة بسبب ضيق وضعها المادي برهن القنديلان لدى احد التجار المقدسيين من المسلمين، وعند استحقاق ميعاد الدين لم تستطع الطائفة المذكورة الايفاء به، الامر الذي ايقنت الدولة العثمانية وقئئذ، أن ذلك الدين قد يفسر بصورة غير محمودة العواقب من بعض المسلمين، وقد يجعل من وضع يدهم داخل كنيسة القيامة سببه الدين، مما حملها على الايعاز لباقي الطوائف بفك الرهن لصالح المصلحة العامة منعا من وقوع الفتنة، الامر الذي فك ذلك الرهن طائفة الروم الارثوذكس، وسُلمت القناديل المرهونة للطائفة الارثوذكسية التي اصبحت تمتلك 4 قناديل من اصل 8.

بناء على ما تقدم، وبمعزل عن التصريحات التي يحاول البعض استغلالها أسوء استغلال، فينبغي من الاهمية بمكان وزمان الالتفات عن صغائر الامور فيما نسب لفلان أو علان من تصريح أو تلميح مقصود أو غير مقصود، فشرف الحفاظ على القدس واهلها من المسيحين والمسلمين اعتبره واجب ديني وقومي بالكلمة الصادقة الشريفة، وبما تقتضيه الامانة العلمية في توضيح كثير من الامور، وبنقل كل ما وقع بين يدي من وثائق قرأتها ابان مراجعتي لسجلات المحكمة الشرعية على مدار عام ونصف بين دائرة احياء الوقف والتراث في بلدة ابوديس وبين المكتبة الوطنية في القدس الغربية منذ العام 2016 حتى منتصف العام 2017.

لذلك من اولى الواجبات علينا جميعا مسيحين ومسلمين في القدس الترفع عن القيل والقال، والعمل بجدية واخلاص للحفاظ على ممتلكات الاجداد والاباء، وعدم السير في نهج يثنينا عن معالجة تسريب عقارات باب الخليل التابعة للوقف المسيحي الارثوذكسي التي تشكل ما نسبته 45% من مساحة ميدان عمر بن الخطاب، وكف اللسان بما يؤذي مشاعر الاخر، منوها كذلك أن محاولة بعض المسلمين المتصهينين ممن ساهم في النفاق وربط قضية أيا صوفيا مع وضع المسجد الاقصى، اقول لهم لم توفقوا في اجراء القياس لأن المسجد الاقصى المسؤول عنه ليس زعيم واحد أو فئة معينة، إنما هو ملك خالص لجميع المسلمين مهما بلغ عددهم، فبيعه يحتاج لتوقيع  اكثر من ملياري مسلم ، فقرؤوا تاريخ اسلافكم وراجعوا اقوال السلطان عبد الحميد من اواخر سلاطين الدولة العثمانية، ارجعوا لرشدكم أو اغلقوا افواهكم.

والله من وراء القصد،،،