• 3 آب 2020
  • أقلام مقدسية

 

بقلم : صبحي حديدي

تحت عنوان «كرة القدم والتحرر من الاستعمار» نشر موقع «ميديابارت» الفرنسي مجموعة حلقات وقّعها ميكائيل كورييا، أحد أبرز المختصين بسياسة كرة القدم، ومؤلف الكتاب الهام «تاريخ شعبي لكرة القدم»، 2018. السنة الماضية، وفي الموقع ذاته، نشر كورييا سلسلة أخرى حول رائدات كرة القدم النسائية، فتوقف عند محطات بريطانيا الفكتورية، والحرب العالمية الأولى حين تصادف تحرّر اللاعبات مع عودة النظام البطريركي، ومواضيع أخرى مرتبطة.
حلقات هذه السنة توقفت عند البرازيل، مبتدئاً من تلك البرهة الفارقة في 29 أيار (مايو) 1919 في ريو دي جانيرو، حين سجّل آرثر فريدينريش هدف البرازيل ضدّ الأورغواي، فمنح بلده كأس أمريكا الجنوبية في كرة القدم؛ مدشناً، مع ذلك، أبكر السجالات حول علاقات الهوية في اللعبة، لأنّ صاحب الهدف وصانع الفوز كان من أب ألماني وأمّ برازيلية سوداء البشرة. ذلك لأنّ كرة القدم، التي أدخلها إلى البرازيل لأوّل مرّة، في سنة 1894، ابن مهندس سكك حديدية بريطاني؛ كانت حكراً على البرجوازية البيضاء، واستُبعد بالتالي اللاعبون من أصول سوداء أو خليطة أو ما كان يُعرف باسم «الأمرو – هنود». ورغم إنجازه الفريد أمام فريق الأوروغواي، فقد خضع فريدينريش لتمييز عنصري صريح من جانب حكّام المباريات البيض، دام سنوات، وتجلى بصفة خاصة في امتناع هؤلاء عن احتساب الأخطاء الواضحة والجسيمة التي كانت تُرتكب ضده.

التاريخ اللاحق للتحرّر البرازيلي، على مستوى اللعبة وسياستها تحديداً، قد يبدأ من تنظيم كأس العالم سنة 2014 حين انخرطت الشرائح الشعبية الفقيرة إجمالاً، وجماعات الأمرو – هنود بصفة خاصة، في انتفاضة احتجاج سعت إلى إسماع الصوت وطالبت بالحقوق؛ ولكنه تاريخ لا ينتهي، اليوم، مع هبّة الكرة في وجه سياسات الرئيس البرازيلي بولسونارو، سواء الاقتصادية – الاجتماعية أو الصحية والرياضية، من دون استثناء ارتمائه في أحضان البيت الأبيض وإدارة دونالد ترامب.
محطة كورييا الثانية هي مصر، حيث لا يبالغ كثيراً حين يستهلها بفقرة تقول إنّ المصري، وقبل الاستفسار عن دينه أو مهنته، إنما يُسأل أوّلاً: أهلاوي أم زملكاوي؟ نسبة، كما هو معروف، إلى أعرق ناديين في البلد شكّلا جزءاً لا يتجزأ من الهوية الاجتماعية المصرية؛ وحيث التنافس بينهما هو في عداد الأشدّ قدرة على الاستقطاب في العالم. ولكن لأنّ العبة دخلت مع، وعن طريق، الاستعمار البريطاني ابتداء من سنة 1882، ومع تأسيس نادي «السكة الحديد» سنة 1903؛ فإنّ مصطفى كامل، المحامي والسياسي الوطني دون سواه، كان المبادر الأوّل إلى تأسيس فريق كرة قدم يلمّ شمل الشباب المصريين الذين تقصيهم السلطات البريطانية من اللعبة، وهكذا ولد النادي الأهلي في سنة 1905.
ومنذ التأسيس، وخاصة بعد أن تولى سعد زغلول رئاسة النادي في سنة 1909، تحول «الأهلي» إلى مدرسة للمقاومة ضد الاستعمار، سواء باختيار اللونين الأحمر والأبيض إحياءً للعلم المصري قبل الاستعمار، أو بمقاطعة اللعب مع الفرق العسكرية االبريطانية. وهنا أيضاً، تواصل التاريخ السياسي للكرة خلال عقود جلاء الاستعمار، والحكومات المصرية المتعاقبة، والمرحلة الناصرية، ثمّ أنور السادات وحسني مبارك، والتحام الأهلاوي بالزملكاوي في ساحة التحرير؛ وصولاً إلى انقلاب عبد الفتاح السيسي ومآثر مجموعات «الألتراس».
محطة ثالثة هي فلسطين، حيث يساجل كورييا بأنّ كرة القدم الفلسطينية لم تفلح في التحرر من نير الاحتلال الإسرائيلي فقط، بل حققت نجاحات باهرة على صعيد استقطاب التضامن العالمي مع القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني، كما فرضت صفة تنافسية استقلالية صريحة رغم كل ممارسات التضييق التي ابتدعتها إدارة الاحتلال. وكان تاريخ الاشتباك مع المؤسسة الصهيونية قد بدأ قبل تأسيس الكيان، في سنة 1928، حين أنشأ اليهودي يوسف يكوتييلي «رابطة كرة القدم في فلسطين»، ثمّ نجح في حيازة عضوية الـ FIFA وانخرط سريعاً في سلسلة سياسات تمييزية عنصرية ضدّ اللاعبين الفلسطينيين؛ سواء عن طريق فرض التحدث باللغة العبرية ومنع العربية، أو الاقتصار على اللاعبين اليهود والبريطانيين.
تباشير المقاومة المضادة سوف تلوح في سنة 1930، مع تأسيس اتحاد رياضي «عربي فلسطيني» حسب تسميته، أطلق نادي «الشباب العرب»، ثم أفسح المجال أمام ولادة عشرات الأندية في عموم فلسطين؛ لعبت دوراً ملحوظاً في إذكاء روح المقاومة خلال ثورة 1936. ولعل نجاح حركة مقاطعة الاحتلال الإسرائيلي، الـ BDS، في ثني فريق الأرجنتين الوطني عن إجراء مباراة تحضيرية ودية مع الفريق الإسرائيلي، كانت مقررة في حزيران (يونيو) 2018؛ صنع العلامة الأحدث على مسارات تحرر الكرة الفلسطينية من الاحتلال، وأبرز طاقاتها المقاوِمة والكفاحية.
فصول مدهشة من تاريخ حافل شهد امتزاج الكرة المستديرة بسياسة التحرر من الاستعمار، و وإيقاظ كوامن التوتر حول مفاهيم الهوية والوطن والعرق والإقليم؛ تسلّط في مجموعها مزيداً من الأضواء على لعبة فريدة اعتبر الروائي الأمريكي بول أوستير أنها «معجزة» الأمم الأوروبية في ممارسة كراهية الآخر دون الاضطرار إلى تمزيق أوصاله في ساحة قتال! وأمّا بيل شانكلي، المدرّب الأسبق لفريق ليفربول البريطاني، فقد وصفها هكذا: «يعتقد بعض الناس أنّ كرة القدم مسألة حياة أو موت. وأستطيع أن أؤكد لكم أنها أكثر جدّية من هذا»!

*القدس العربي