• 11 آب 2020
  • أقلام مقدسية

 

بقلم : د علي قليبو

لقد هالني ما حدث في ميناء بيروت من انفجار مدوي، كان بمثابة انفجار على كل المسلمات ،فلقد يحول فجأة وجه بيروت , تلك المدينة التي حافظت بشكل كبير على طابع المدينة العربية في المشرق العربي ، والتي جمعت بين الاصالة  والعالمية ، بخلاف مدن الهلال الخصيب والتي فقدت هذه الخصوصية لظروف سياسية بعد الحرب العالمية الثانية.

في هذه المقالة اتناول الجانب التاريخي الاقتصادي والثقافي للمدينة في اطار مختلف ، بعيدا عن الجانب الانساني والذي قد يثير حفيظة الكثيرين خاصة وان هذا الملف شائك  به الكثير من الثقوب السوداء، ولكن هذا المقام لهذا المقال:

إن من أهم ظواهر القرن العشرين ، نشوء وإزدهار مدن في شتى ارجاء اسيا كانت قرى صغيرة ، وتحولت إلى مدن صناعية ذات اقتصاد عالمي وإلى مراكز علم ومعرفة ، فنجد على سبيل المثال مدينة شنزين وووهان وناجينج وسينجابور وكوالامبور ، وما يثير دهشتنا من ناحية اخرى المعجزات الاقتصادية وعظمة المدن التي نهضت من رماد الحرب العالمية الثانية لتصبح أعظم مدن العالم مثل طوكيو وسيول ، وبالمقابل تدهورت مكانة مدن المشرق العربي خاصة ومدن الهلال الخصيب عامة ، لتبقى بيروت حالة استثنائية فلقد نهضت من الانتداب الفرنسي واهوال الحروب الأهلية والغارات الإسرائيلية المتتالية لتتبوأ مكانة مميزة كمركز اقتصادي وثقافي وفني وسياحي.

إن الإنفجارفي مرفأ بيروت ليس بالحدث المنفرد بل إن الفريد  في الامر هو أن بيروت هي المدينة الوحيدة بالمشرق العربي التي بقيت صامدة حين سقطت المدن الاخرى وسلخت عن بلاد الشام لتصبح جزئا من كيانات أخرى ، او لتفقد موقعها التجاري ولتتقهقر مركزيتهاالثقافية، ففقدت حيويتها  لتصبح متحفا تاريخيا. بخلاف هذه المدن على امتداد جنوب شرق البحر المتوسط والذي تعرف بالانجليزية والفرنسية باسم Levant نجد أن بيروت نجحت باقتحام القرن الواحد والعشرين بالرغم من الدمار وحالات الفوضى الداخلية في الخمسينيات  والسبعينيات من القرن العشرين ، بل حتى  أنها احرزت تقدما ملحوظا على الصعيد الاقتصادي والثقافي وطورت  طابعها الحضاري الذي يجمع بين الاصالة والمعاصرة ، ونجحت باستقطاب مختلف القوميات والاثنيات من كل ارجاء العالم التي توافدت للاقامة بها ولتبث المزيد من الحيوية في مختلف مرافق الحياة محافظة بذلك علىالطابعالعالمي cosmopolitanismوالتي  تميزت بها سابقا مدن بلاد الشام.

عرفت بلاد  المشرق العربي بالفرنسية والانجليزية باسم Levant وتمتد من انطاكيا مرورا باللاذقية وطرابلس بيروت فصيدا وصور فعكا ومن ثم حيفا وعروس البحر يافا وصولا الى غزة وتتوغل في بلاد الشام لتضم القدس ونابلس ودمشق وحمص وحماة وحلب ، وارتبطت هذه المدن منذ فجر التاريخ الكنعاني. وملحمة بعل حداد اله الخصوبة والمطر وسائر النصوص الدينية والادبية والسياسية الكنعانية  والتي عثر على معظمها في حاضرة بلاد الشام في مدينة اوجاريت على تخوم اللاذقية. وتوطدت علاقات المدن الدول الكنعانية في العصر الاغريقي وتحت الحكم البيزنطي فالاموي وصولا الى الاحتلال الصليبي والعصر الايوبي والمملوكي والعثماني. ونجد مدن بلاد المشرق العربي وقد ارتبطت في طرق تجارية قديمة قدم التاريخ... وفي العصر العثماني تنقل وأقام رجال الدين من علماء ورجال افتاء وقضاة بين هذه المدن فلم تخلو عائلة مقدسية أو غزية أو نابلسية أو خليلية من علاقات اسرية تربطها مع حلب وبيروت ودمشق حتى امست هذه المدن نسيجا اجتماعيا تربطها علاقات النسب فكما يعرف بالعامية : النسوان شبكة.

في القرن التاسع عشر تعرضت السيادة العثمانية لهجمة شرسة وكذلك تعرضت مدن المشرق العربي خاصة لحملة استعمارية تم بموجبها  فصلها عن الدولة العثمانية ، ومن ثم تقسيمها وإعادة تركيبتها الاجتماعية الديوغرافية. نجد في معاهدة سايكس بيكو أول إشارات لسلخ بلاد الشام عن الخلافة العثمانية ومن ثم فرض الوصاية اي الانتداب البريطاني والفرنسي لتهيئة الظروف للتفريغ الاثني ، وتدمير حضارات الشرق الاقصى القديمة واقتلاع جذور الإنتماء التاريخي لجغرافيا بلاد الشام الحضارية ...هذه الإجراءات القمعية السياسية كانت بمثابةالخطوات التي مهدت لقيام دولة اسرائيل في فلسطين وتغيير ديموغرافيتها ، واقامة ممالك ودول  يقوم حكامهم بادارة البلاد وفقا لما تمليه عليهم الدول الاستعمارية .... فاذا ما اضفنا العراق إلى الصورة وجدنا أن الهلال الخصيب برمته قد تم بالفعل تدميره..فبغداد والبصرة والموصل ومدن العراق ، قد تم تدمير بنيتها الاقتصادية وزعزعة مكانتها الثقافية والعبث وتغيير في تركيبتها السكانية ديموغرافيا  تم خلالهاتهميش السنة وتفريغ العراق وسوريا وفلسطين من كلا السنيين والنصارى والاقليات الدينية العرقية التاريخية ، وتهجيهم لتصبح السيادة للشيعة في العراق والعلويين بسوريا واليهود في فلسطين. وفي خضم هذه الإستراتيجية الخبيثة  والتي رسمتها القوى الاستعمارية في القرن التاسع عشر نجحت لبنان بالرغم من جميع الحروب الاهلية الحفاظ على  معالم المدينة المشرقية من عولمة ونجاح اقتصادي ثقاقي يجمع بين الماضي العريق والحاضر المعاصر ، في إطار ازدهرت به مختلف القوالب الثقافية في مجتمع تغلب عليه العولمة وروح المعاصرة  بالرغم من جميع التحديات والفساد المستشري في النظام الحاكم...

ومن بين الإشكاليات التي حالت بين مدن المشرق وبين المعاصرة العالمية نجد المؤرخ الشهير برنارد لويس يعزي إلى النظام الاجتماعي القبلي دورا خطيرا  كأحد العوائق في طريق الحداثة والمعاصرة، فبلاد الشام والهلال الخصيب تتكون من مجتمعات قبلية جماعية الطابع تكاد تخلوا من النزعه الفردية،والتي هي أساس الديموقراطية والتي تقف حائلا في اتخاذ قرارات حيوية. فالهلال الخصيب ما زال مجتمع قبلي لكل من دويلاته حيثياتها الخاصة ، فنجدها وقد تطورت في لبنان  لتتخذ قالب الطوائف الاثنية حيث المبدأ القبلي ، انصر اخاك ظالما او مظلوما, ما زال سائدا ونجدها بين الفلسطينيين في تعدد الفصائل السياسية . واتوقف حيث انه موضوع يجب على المختصين متابعته.... هذه العقبات وما يتفرع عنها أضف إلى أن الحكام منتدبين ومختارين من القوى الاستعمارية السابقة لادارة شوؤن البلاد ، وفدوا ليحكموه وليس لخدمتهم ، يرافق ذلك سياسة تربوية ونهج نعليمي تجهيلي ليغدوا المواطن غريبا في بلده... فالإنتماء هو للقبيلة او الفصيل او الطائفة وليس للوطن ككل... وهكذا وبسياسة مبرمجة مسبقا  نجد أن افاق الرؤية قد أصبحت محدودة ، وان والادراك الفردي مضلل ومغيب... وفي هذا الاطار القمعي  تم تهجير العقول ومن ثم تحجير القلوب لتصبح مدن المشرق العربي متاحفا تاريخية فارغة من محنواها الثقافي والصناعي والتجاري وبعدها الانساني...

لا ننس أن حلب وغزة وحمص ودمشق وجبيل وصور وصيدا وعكا وغزة ومدن ما بين بلاد ما بين النهرين .... مدن عريقة القدم وهي تمثل بقايا الحضارات السامية القديمة، ومهد ليس فقط الديانات السماوية لكن الفكر والفن والعلم الأوروبي ،ولهذا فإن عملية تهميش وتقويض مدن المشرق العربي  هي جزء لا يتجزأ من الاستشراق والامبريالية الاوروبية التي بدأت في الحروب الصليبية وبعثت في القرن التاسع عشر ، ليصبح الان صراع الحضارات واقعا ملموسا نسمع صداه في انفجار مرفأ بيروت.

في هذا الإطار وجع بيروت هو وجعنا فبالإضافة إلى  كونه امتداد اواصر جذورنا الثقافية والدينية والتاريخية ، ولفترة زمنية قصيرة وقبل ان تعود فتتبوأ استنبول مكانتها الحالية كالمدينة التي تستقطب كل العرب تجاريا وثقافيا, وسياحيا- لمع نجم بيروت كمركز ثقافي... فقليل ممن هم في جيلي  لم يلتحق أحد أعمامه او عماته , اخواله او خالاته او شقيقاته أو أحد أقاربه في إحدى الجامعات اللبنانية.... حيث التحق المقدسيون وسكان بلاد الشام  عامة بالجامعات اللبنانية سواء الجامعة الاميركية ، جامعة بيروت العربية ، الجامعه اليسوعية او كلية بيروت للبنات... التحقوا بكليات الطب والقانون والتجارة والادب  والتاريخ وبرز اعظم كتابنا واطبائنا ورجال القانون والسياسين....

وما كاد الانفجار يدوي في لبنان حتى انتشرت منشورات التعاطف بالرغم من معاناة اشقائنا اللاجئين الفلسطينيين  في المخيمات هناك، ومن الطريف ايضا ظاهرة انتشار العزاء على مواقع  التواصل الاجتماعي تنعي السيدة فيروز فلبنان الان تجسده فيروز والتي اقترن صوتها بالقدس وشوارعها القديمة ،حيث تعانق المأذن الكنائس، وحيث ترحل عيون فيروز ومعها اللبنانيين  كل يوم إلى القدس بإنتظار العودة ... ففي لبنان تجسد حلم العودة شعرا ولحنا حتى غدت فيروز والرحبانيين والقمر جزءا لا يتجزا من الوجدان الفلسطيني.

وجعنا في بيروت هو وجع جسم بترت احدى اعضاءه...

في انفجار المرفأ ومصاب بيروت تجد صدى  اليما يذكرنا بما حل بالهلال الخصيب والمشرق العربي من ويلات...

في السبعين عاما المنصرمة راحت فلسطين ، وراحت سوريا والعراق ، ولم يبق لنا في المشرق العربي إلا مدينة بيروت تنبض حياة ، تذكرنا بالذي مضي وتلهمنا حنينا يبث الآمل فينا