• 13 آب 2020
  • أقلام مقدسية

 

بقلم  : القاضي فواز ابراهيم نزار عطية

كتب المؤرخون والنقاد كثيرا عن تاريخ القدس، وحاول البعض منهم التوصل لترياق التعايش فيها، بما يؤدي لحل منصف لمشكلة الصراع على هذه المدينة، التي كانت وما زالت محل صراع بين اصحاب الرسالات السماوية الثلاثة على مدار ألفي عام.

يرى البعض أن تشخيص المشكلة جزء لا يتجزأ من حلها، كما ويرى ذلك الفريق أن الحل ينبع عن الإلمام بالمعرفة بجميع الحضارات التي ساهمت في بناء القدس على مرّ التاريخ، للوصول إلى تعايش مثالي يدمج ويحصر كل الصراعات في زاوية نحو الاستقرار.

 كما يعتقد البعض من باب التأكيد أن لكل حضارة سمات خاصة بها، ولبناء حضارة جديدة و ببصمة مستقلة عن التي سبقتها، ولغايات ابرازها لحيز الوجود ضمن العمل الدؤوب لتذويب الحضارة السابقة، يستدعي بادئ الامر أن يتم بسط السيطرة على مجموعة من الناس  بهدف فرض ثقافة معينة لتحديد هوية الحضارة الجديدة، مع العلم أن بناء الحضارة الجديدة يحتاج لجهود واعمال انسانية  سنوات وسنوات.

القدس كانت ولا زالت اساس الصراعات  بين الامم، إذ سكانها على مرّ التاريخ، بلا شك تأثروا بهوية الحضارات التي جاءت وحلت على المدينة، في الوقت الذي استطاع أهلها الاحتفاظ بقدر محدد من هويتهم الخاصة.

إن المقام يتسع الآن لبيان ماهية الحضارة التي يجب أن تؤسس على قواعد القيم الاخلاقية، لتكون محل قبول من الشعوب ومحل خضوع لها - ما دام اصحاب الحضارة يتمتعون بالفطرة الانسانية التي خلقهم الله عليها وهي الفطرة السليمة-  الامر الذي يجب أن  تمثل تلك القيم حالة طبيعية من الاندماج للشعوب في هويتها، وستكون ضمن معادلة الديمومة والاستمرارية، وإن اصابها الوهن في بعض اطرافها نتيجة الترهل أو ما يعتري البدن في بعض الحالات من اسقام وامراض مؤقتة.

دون تعصب أو محاباة، فالحضارة الاسلامية اتسمت بقواعدها الاخلاقية الشاملة، نتيجة صلاح فكرتها بما تتمتع به من قيم تساعد في تصريف شؤون الحياة لجميع البشر، لذلك ليس من باب المبالغة القول أن الحضارة الاسلامية تصلح لكل زمان ومكان، وإلا لماذا صمدت كل هذه المدة في الوقت الذي اندثرت حضارات سابقة؟ ولم نجد في الوقت الحالي حضارة تضاهي الحضارة الاسلامية؟

الحديث عن الاخلاق لا يقل اهمية للحديث عن التقدم في مختلف مجالات العلوم بمختلف التوجهات والتخصصات، لأن الحضارة وحدة واحدة ووجهان لمفهوم واحد، فرُقي الاخلاق يؤدي لارتفاع منسوب العلم والمعرفة الذي سينصب بما يخدم الانسانية جمعاء وليس لفئة محددة من الناس.

 لذلك وجد علماء الاجتماع أن ارتفاع الشأن الاخلاقي في أية حضارة سيكون مصيرها مربوط بالديمومة والاستمرار، مما سينعكس ذلك على النتائج العلمية والعملية المعرفية لتكون مسخرة لخير البشرية وليس لشرها.

اطلت في المقدمة لتبيان امر واحد يتعلق بموضوع المقال، هدفه التذكير أن الحضارات نتاج خبرات متراكمة بين بني البشر، فكلما كانت الاخلاق والقيم الحميدة سيدة الموقف زاد التقدم العلمي والمعرفي، فالدين والسياسة يجتمعان وليس العكس، لأن الحالة الاخلاقية المنظمة بتشريع رباني حتما سيكتب لها النجاح . بشرط التمسك بالقيم المفروضة من الخالق العظيم دون تعديل أو تحريف، فلا يجوز تحريم السرقة فيما بين مجموعة معينة من الناس وتحليلها ضد مجموعة اخرى، ولا يجوز تحريم الانفاكاك الزوجي واطلاق العنان للزنا أو ايجاد عقوبات غير رادعة لفعل يؤدي إلى تدمير الاسرة والمجتمع، كما لا يجوز فرض الجزاء على فئة معينة نتيجة ارتكاب المخالفات والتشفع لفئة اخرى ومنع تطبيق ذات العقاب على ذات الجرم، كما لا يجوز تحريم القتل على فئة محددة واباحته لقتل فئة اخرى للاختلاف في العقيدة أو الفكر أو الجنس، كما ولا يجوز التمييز بين الذكر والانثى والصاق الخطيئة بالانثى دون الذكر، امور كثيرة لا يمكن سردها في هذا المقال، التي تؤكد مصداقية سنة الله في الكون بأن الخير والخَبث لا يجتمعان.

بناء على ذلك، فإذا كانت الحضارة مجموعة من الاعمال والنشاطات الخيرة، تهدف لتمجيد الاخلاق والعمل بالقيم الانسانية في سبيل الرقي بالإنسان لإعمار الارض وتوزيع الثروات والخيرات على الجميع، ضمن قواعد العدل والانصاف بما يحقق تسخير جميع مكونات الارض خدمة للإنسان وليس لقتله وفناؤه، فالعلم  كذلك يجب أن يسخر لخدمته لا لتدميره، وبالتالي توفر الرحمة بين بني الانسان حتما ستنعكس تلك الرحمة على باقي مخلوقات الله.

الحديث يطول ولا يتسع لسرد المظالم والآهات والويلات التي تلمببعض شعوب العالم و بالشعوب العربية وعلى وجه التحديد الشعب الفلسطيني، ولا يتسع المقام لبسط سلسلة ظلم الانسان لأخيه الانسان، كما ولا يتسع للتركيز على صورة الانسان الحالي الذي اصبح الفقر والتشريد والجوع والامراض والمآسي متلازمة ولصيقة به، فعصر الطغيان والتحكم بقوت البشرية واقتصادها وبمصير أمم وشعوب اصبح  سيد الموقف، وللأسف هذا الطغيان محصورا بزمرة قليلة قلية من بني البشر لا تملك أية مقومات من القيم الاخلاقية والانسانية، وانما الشجع والطمع ألصق بهم صفة بعيدة كل البعد عن الغريزة الحيوانية، فالكواسر والجوارح والضواري تقتل لتشبع وعندما تصل حد التخمة تترك فريستها لأيام ولا تهاجم إلا للاكل، بينما بعض بني البشر يصعب تحديد وصف لهم نتيجة عجز علم الاجتماع حتى اليوم عن اطلاق وصف يليق بحالهم الهمجي الغير اخلاقي والغير انساني.

إذا العدل اساس الملك واحقاق الحق اساس الديمومة لأي نظام حكم في العالم، وبناء الحضارة يستقيم على نهج قويم، وبالتالي لا اتفق مع القول الذى يتداوله بعض علماء الاجتماع، أن من يمتلك القوة والسيطرة يمتلك فرض فكره ولغته وفرض مصالحه  شاءت هذه الشعوب أم أبت.

صحيح أن بعض الحضارات حاولت التأثير على حياة شعوب بأكملها، لكن نتيجة الظلم وانعدام القيم الاخلاقية للدول التي احتلت تلك الشعوب سرعان ما تلاشت  وانتهت واندثرت افكارها وثقافتها معها.

ولا يسعني في هذا المقام، إلا أن اشير لواقع القيم والاخلاق التي ادخلت حضارة كاملة لشعوب كانت عصية على جيوش جبارة لاحتلالها، فعندما دخلت الحضارة الاسلامية بلاد شرق آسيا، لم تجهز لها الجيوش، ولم تعد لها العدة، وانما بالفكر والاستقامة والامانة في التعامل من خلال تجار المسلمين مع شعوب تلك المناطق ادخل الحضارة الاسلامية في القلوب قبل الاوطان واصبحت نهج حياة لهم حتى اليوم، فقوة السيف لم تكن حاضرة في ذلك الوقت، وانما بالقيم والاخلاق الحميدة فُتحت بلاد ودخل اهلها في الدين الاسلامي طواعية لا كراهية.

الصراع على القدس ليس وليد نصف قرن من الزمان أو يزيد، بل كان الصراع قاسيا ومريرا على القدس واهلها في مختلف العصور، قبل الفتح الاسلامي وبعده، وازداد ضراوة بعد الفتح العمري للقدس قبل نحو 1400عاما، فظهر صراع بين المسلمين وبين من يدعي أنها حاملة وحامة الصليب للذين اطلق عليهم الصليبيون وهم من الاوروبين، حيث تعرضت القدس لعدد من الحملات والغزوات الصليبية وتم البطش والتنكيل بالمسيحين العرب قبل المسلمين قبل البعثة المحمدية، بالرغم من أن مسيحي الشرق من العرب قد تحملوا الشقاء والآلام من الفرنجة بعد الفتح الاسلامي، نتيجة اطماع اقتصادية وبسط نفوذ ليس إلا، ثم  تم تحويل بوصلة الصراع من صراع اقتصادي وسياسي إلى صراع ديني.

وفيما بعد، بدء صراع الحضارات على اساس ديني، ولا يساورني الشك في أن من ساهم في ذلك الصراع الاستعمار الغربي بعد انهاء الامبراطورية العثمانية بالتعاون مع القوميين العرب، الذين كانوا أول ضحايا المؤامرة الكونية لجهلهم والتسليم بصدق نوايا الاستعمار، فكانت بريطانيا أول من ساهم في  خلق كيان تحت مسمى اسرائيل كمشهد اضافي لتعزيز الصراع على من يحكم القدس.

الشواهد التاريخية لا تعد ولا تحصى والمآسي والآلام كذلك، فمهما حاولت سلطات الاحتلال الاسرائيلي من تغيير بعض الشواهد والآثار، ومهما توصلت من نتائج علمية مبهرة في بعض المجالات سواء أكانت طبية أو زراعية أو غير ذلك، يبقى شطر الحضارة ناقصا لديها، فلن تستطيع بناء حضارة يهودية أو اسرائيلية على انقاض حقوق انسان آخر مهم كانت الأسباب،  واهمها  السبب الذي اشرت إليه في متن هذه المقالة، بأن بناء الحضارة يحتاج لقواعد وقيم اخلاقية انسانية أولا، فلا يمكن لتلك القواعد والقيم المهزوزة وغير المكتملة والتي تقوم على تحريم المنكرات على بني جلدتها فقط وتحلله على غيرها، فلا يستوي أن امنع قتل انسان يهودي وابيح قتل انسان غير يهودي، لأن هذا الفعل المُنكر يتنافى وقواعد الاخلاق والقيم الانسانية، القتل هو قتل، فلا  تمييز في القتل، ولا يجوز أن احرم سرقة اليهودي واسمح بسرقة غير اليهودي، أليس في التهجير القسري واحتلال البيوت والمنشآت عام 1948 سرقة؟؟ فالسرقة تخالف فطرة القيم الاخلاقية، كيف يستقيم لسلطة الاحتلال بناء حضارة خاصة بها وهي تساهم في التحكم بمصير شعب وفق اهوائها دون مراعاة للقيم الانسانية والقواعد الاخلاقية الحميدة، فهل الحصار والتجويع والتنكيل وهدم البيوت من مقومات بناء الحضارة؟ وهل من مقومات الحضارة التمييز في الاحكام القضائية بين اليهودي وغير اليهودي عند ارتكاب ذات الفعل المجرم ؟ فهل تم على سبيل المثال لا الحصر هدم بيت قاتل الطفل محمد أبو خضير، وهل تم هدم بيت قاتل عائلة الدوابشة، رغم أن الفعل وجسامته ودوافعه يقع على ذات مسطرة القانون عندما يتم هدم البيوت العربية وهل وهل ....

فلا يغرن اليوم أهل القدس ، أن في توزيع بعض الدراهم المعدودة عليهم كمساعدات من سلطة الاحتلال، نتيجة الجائحة العالمية بما اصاب اهل الارض من وباء قاتل، ينفي عنهم صفة الاحتلال والغصب، كما ولا ينفي ذلك مخالفة فطرة القيم الاخلاقية التي يجب أن يتمتع بها الانسان، فالتمييز في مختلف مجالات الحياة في تصريف شؤون أهل القدس، فيما يخص البناء والتوسعة والتكاليف والبنية التحية والصحة والتعليم والضرائب المختلفة والغرامات التي اصبحت تفوق ضرائب الملح في العصور الوسطى، جميعها تؤكد أنه يستحيل بناء حضارة يهودية أو اسرائيلية.

التاريخ سَجل ويُسجل وسيُسجل ولن يقف عند احد، فدولاب الحياة مستمر، والبقاء على القيم الاخلاقية بكامل مكوناتها دون تجزأت أو تمييز، حينئذ تبنى الحضارة، لذلك عندما سادت الحضارة الاسلامية اكثر من ثلثي مساحة الارض، لم تكن وليد صدفة، ومازالت تلك الحضارة في المقدمة، وما زال الناس في مختلف بقاع الارض يدخلون روحانياتها افواجا، لأن مقوماتها مازالت تطبق في جميع تشريعات دول العالم، فالتضامن الاجتماعي اوجده عمر بن الخطاب دون أن يفرق بين رعيته بين مسلم وغير مسلم، والقصة الشهيرة التي تداولها التاريخ سيدة الموقف بين عمر بن الخطاب واليهودي المسن الذي قضى له  عمر براتب شهري نتيجة العوز، وعدل عمر مازال يدرس في كليات الحقوق، ومبادئ عمر بن الخطاب وضعت في ميثاق الامم المتحدة ضمن البنود الأولى منه، عندما اقتبس من مقولته الشهيرة لعمرو بن العاص " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم احرارا"، المحكمة الدستورية العليا في الولايات المتحدة الامريكية تضع جملة على مدخلها ضمن قيم الحضارة الاسلامية " تتشرف المحكمة الدستورية العليا بالرسول محمد رسول الاسلام لكونه واحد من مصادر القانون و العدالة".....

في الختام، الحضارة بصمة انسانية تتربع على عرش القيم والاخلاق بما تتقبله الفطرة الانسانية من ممارسات في التعامل بين مختلف البشر دون تمييز أو محاباة، بما يؤدي إلى التطور العلمي ليكون خدمة للبشر، فلولا الحضارة الاسلامية بكامل مكوناتها لما توصل العلم الحديث للتقنيات والمعرفة التي وصلنا إليها، فبشاهدة علماء الغرب الحضارة الاسلامية اساس التقدم العلمي الحالي، الامر الذي يدفعني أن اترك الاجابة للقارئ الكريم، ليقرر من يستحق قيادة القدس....