• 3 أيلول 2020
  • أقلام مقدسية

 

بقلم : عماد شقور

 

تقول الطرفة المعروفة: سقطت قطعة النقد من يد الطفل البريء وهو عائد في المساء الى بيته، فرجع الى الوراء يبحث عنها تحت عامود الإنارة. ولما سأله والده إن كانت القطعة قد سقطت حيث يبحث، أجابه الطفل بالنفي، ولكنه يبحث عنها حيث يتوفر النور.. حيث يتوفر الضوء الذي ينعكس على سطح القطعة المعدنية، فـ»يفضح» مكانها.
أضواء ابو ظبي ودبي والشارقة وبقية الإمارات التي تشكل معا «دولة الإمارات العربية المتحدة» جميلة وكاشفة. اما شوارع مخيم الجلزون، (الذي تحاصره وتخنقه مستوطنة/مستعمرة «بيت إيل»)، فهي أزقّة معتمة. والبحث والتفتيش عن «السلام» تحت اضواء ابو ظبي ودبي، أسهل، واكثر إمتاعاً ايضا، من البحث عنه في ازقة المخيم.
بنيامين نتنياهو، رئيس الحكومة الإسرائيلية، ليس طفلاً، ولا هو بريء. إنه يعرف أن «السلام والامن» (الذي يدّعي انه يبحث عنه)، ليس مختفيا في موقع ما تحت اضواء ابو ظبي. وهو يعرف أن «السلام والامن والامان» متوفر ومعروض في ازقة المخيم التي يفرض عليها، هو وحكومته اليمينية العنصرية الاستعمارية، الظلم والعتمة والظلام.
فوق ذلك وبعده، يعرف الجميع أن دولة الإمارات، التي تشكلت عام 1972، اي بعد اعلان إقامة إسرائيل باربع وعشرين سنة، حيث كانت قبل ذلك مشيخات ومحميات، (متصالحة ومتحاربة)، واقعة جميعها، وما يحيط بها ايضا، تحت نير الاستعمار البريطاني الذي أقام إسرائيل على ارض فلسطين. وهي بذلك ليست في حالة حرب مع إسرائيل، ليصبح بالإمكان القول ان نتنياهو نجح في ايقاف وقائع حرب مستعرة، وتمكن من ابرام اتفاقية سلام انهت تلك الحرب لم تقع اصلا. كل ما في الامر ان ما كان قائما بشكل سري، منذ اكثر من عقدين، بفعل ضغوط أمريكية هائلة، اصبح الآن معلنا على رؤوس الاشهاد، لاسباب ذات علاقة فاقعة بالانتخابات الأمريكية بعد شهرين.
أثار هذا «الحدث الإعلامي» موجة غضب عارم في المجتمع الفلسطيني، داخل فلسطين، وفي دول اللجوء والشتات؛ في حين استقبل الإسرائيليون، بشكل عام، اعلان نتنياهو عن «تطبيع العلاقات» مع دولة الإمارات العربية، بفتور واضح، رغم أنه بذل جهدا كبيرا على اخراج مسرحي لهذا التطور، كما انعكس ذلك في وسائل الإعلام في إسرائيل وغيرها.
في محاولة لتفسير ذلك الفتور في رد فعل المجتمع الإسرائيلي، قد يكون من المفيد التركيز على الفروق التي قد لا تكون واضحة بما فيه الكفاية بين ثلاثة تعابير، تبدو في ظاهرها متقاربة المعنى:
ـ تعبير «إسرائيل» ككيان سياسي، و«الإسرائيليين» كبشر وكمواطنين عاديين.
ـ تعبير «الأمن» بالنسبة للدولة، (أي دولة)، ككيان سياسي، و(الأمان) بالنسبة للفرد والعائلة وبسطاء الناس.
ـ تعبير «السلام» بمعنى انعدام وجود وتفجر حالة حرب معلنة بين الدول العادية، وتعبير «السلامة» والاطمئنان والتفرغ لبناء الذات والتطور والمساهمة في رفد العلم والحضارة البشرية بالنسبة للافراد.
بداية، يجدر بنا الاعتراف أن «إسرائيل» ككيان سياسي، ضمنت لنفسها «الأمن» كدولة، منذ مطلع نهاية النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي، حين بنت لها فرنسا المفاعل الذري في ديمونا، وتثبّت ذلك تماما في مطلع الستينيات، حين اكدت مصادر غير إسرائيلية، احراز انتاجها لأول قنبلة ذرية، وبدء توفير ترسانة من ذلك السلاح، وزاد ذلك الاطمئنان رسوخا وثباتا اثناء حرب حزيران/يونيو 1967، حين تم ابلاغ إسرائيل ان أمريكا، (حسب ما جاء في مذكرات وزير الدفاع الأمريكي، روبرت مكنامارا، في ادارة الرئيس ليندون جونسون)، انه تم استنفار الجيش الأمريكي، استعدادا للتصدي لاي محاولة تدخل سوفياتي في تلك الحرب. ثم كل ما تلا تلك الحرب من تطورات، بما في ذلك ما ورد في العديد من المصادر التي تحدثت عن طلب وزير الدفاع الإسرائيلي، في حينه، موشي ديان، (في ساعة انهيار معنوياته اثناء الايام الاولى لحرب تشرين/اكتوبر 1973)، من انه طلب اعداد اللجوء الى ترسانة إسرائيل الذرية.
سلاح الردع الاساسي في حروب هذا العصر، متوفر في إسرائيل، (حسب مصادر صحافية). هو سلاح للردع وليس للاستعمال. هو سلاح قادر على ردع أي اعتداء لتدمير إسرائيل، ككيان سياسي، سواء كان هذا الاعتداء من مصر او سوريا او الجزائر او العراق او حتى من إيران او تركيا، (ونستثني هنا الباكستان صاحبة اول «قنبلة ذرية إسلامية» القادرة على الرد بالردع على أي تهديد بالردع).

هذه الحقيقة وفّرت لإسرائيل (ككيان سياسي) «الأمن». لكن كل قنابل إسرائيل الذرية لا تخيف نابلس ولا الخليل ولا حتى مخيم البريج في قطاع غزة، لأن أي قنبلة من هذا السلاح تتفجر في أي من هذه المواقع، تدمر تل ابيب ومحيطها.
ما يخافه الفرد العادي، في إسرائيل، وفي كل مكان آخر في العالم، هو وجود مناضل، يحمل مسدّسا او سكّينا او حتى عصى غليظة، عند زاوية مخفية على طريق ايصال زوجة الجنرال لابنتهما الى المدرسة، او في طريق عودتها ليلا من زيارة صديقة لها الى بيتها. الجنرال المقيم/السّاكن في الدبابة او قمرة الطائرة الحربية لا يخاف من مناضل. أما أبوه وأمه وزوجته وابنته وابنه فهم يخافون. اكثر من ذلك: آخر ما عرفته من نتائج استقصاء/استطلاع رأي في إسرائيل قبل بضع سنوات، ان 22٪ من الرجال في إسرائيل، يحرصون على التأكد من وضع المسدس تحت مخدة النوم في بيوتهم. «الأمن» متوفر لإسرائيل. «الأمان» غير متوفر لإسرائيل.
ما سأقوله في هذه الفقرة ليس تكريما لدافيد بن غوريون، «مهندس» إعلان إقامة إسرائيل. لكنه كان اذكى واصدق من نتنياهو. يروون في إسرائيل قول بن غوريون: «اعرف ما يحبه اليهود/ الإسرائيليون، وأعرف ما هو مفيد لليهود/الإسرائيليين. ما سأختاره هو ما يفيد، وليس ما يحبون». نتنياهو انتهازي، أكثر عنصرية وأقل حكمة. اختار ما يحبونه، ولم يختر ما يفيدهم. أوهمهم أن الطريق الى الجلزون تمر من ابو ظبي، ولم يكشف لهم ان الطريق الى ابو ظبي ودبي تمر من الجلزون ومخيمات البريج والوحدات واليرموك وعين الحلوة.
نتنياهو ليس غبيّا. انه ذكي. لكنه انتهازي. وسيّئ للفلسطينيين كما للإسرائيليين. يفكر ويركز على وضعه ومصلحته الشخصية الآنية. لا يعير المستقبل، حتى المستقبل القريب، أي اهتمام.
يعرف نتنياهو، ويعرف الإسرائيليون، ان لا طريق لهم، بالمطلق، الى المستقبل، (بفضل تطور البشرية، وبفضل نعمة انتهاء عصور القدرة على الابادة: من ابادة الهنود الحمر في أمريكا الشمالية، الى ابادة القبائل وابناء البلاد في أمريكا اللاتينية واستراليا وغيرها)، الا بالاستعانة بالجسر الفلسطيني. وعلى هذا الجسر، سيضطر الإسرائيليون، (لضمان حياتهم ومستقبلهم)، الى التقدم بخطوات ثلاث: خطوة صغيرة وبديهية وممكنة، وخطوة متوسطة، وخطوة ثالثة صعبة، لكن لا بد منها:
ـ خطوة اولى هي نبذ العنصرية والتمييز ضد الفلسطينيين حاملي بطاقة الهوية الإسرائيلية، وتمكين ثلثهم، (تقريبا)، من العودة الي قراهم واملاكهم واحيائهم في المدن داخل إسرائيل، وهو ما يشكل احقاقا للحق الطبيعي الانساني.. الى كفر برعم واقرث وصفورية وميعار وغيرها، وهذا ما لا يحدث تغييرا في الميزان الديموغرافي الذي تتحجج به إسرائيل.
ـ خطوة ثانية هي التقدم بدعوة الى اعادة المفاوضات، ليس لبحث محتوياتها، وانما للتوافق حول كيفية تنفيذ الانسحاب من المناطق الفلسطينية المحتلة في حرب حزيران/ يونيو 1967، والتوافق على جدولها الزمني.
ـ وخطوة ثالثة صعبة، هي التوصل الى حل (وحلول) يعطي مجمل اللاجئين في دول اللجوء والشتات حقوقهم في العودة او التعويض.
الطريق الى السلام الحقيقي، الذي يضمن الأمن لإسرائيل، والأمان للإسرائيليين، يستدعي، بالضرورة المطلقة، عبور هذه الخطوات الثلاث على الجسر الفلسطيني، مع كامل أثمانها وتكاليفها. وما مكابرة نتنياهو (ومن معه في البيت الابيض/الاسود في واشنطن)، الا مجرد حركات بهلوانية في سرك قد يفرح بعض عقول اطفال هنا او هناك.
أكثر ما يحزن هو أن فشل نتنياهو في تجاوز الجسر الفلسطيني، قاده، ليس لاعادة التفكير ومحاسبة الذات، بل الى المكابرة، متمثلة في محاولة تجاوز الجسر الأردني.
ولهذا حديث وكلام في مقبل الايام.
لكن لا بد من كلمة اخيرة:
القطيعة بين القيادة الفلسطينية الشرعية، وقيادات دولة الإمارات العربية، عمرها أكثر من عقد. لا مصلحة وطنية فلسطينية، ولا مصلحة قومية عربية، في استمرارها، فكيف اذا كانت التطورات في الاسابيع القليلة الماضية تتجه، لا نحو تثبيتها فقط، بل نحو تحويلها الى قطيعة بين شعبين عربيين؟.

القدس العربي