• 19 أيلول 2020
  • أقلام مقدسية

 

 

بقلم القاضي : فواز ابراهيم نزار عطيه

 

استهل افتتاحية هذه المقالة، بما قاله أبو حامد الغزالي رحمه الله، وهو من اقطاب الفلاسفة في العصر الاسلامي :"من لم يشك فلم ينظر، ومن لم ينظر لم يُبصر، و من لم يُبصر، يبقى في متاهات العمى،  وإن العلم اليقيني هو الذي يُكشف فيه المعلوم انكشافاً لا يبقى معه ريب، ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم".

ما أشبه تاريخ أمس قبل  800 عاما تقريبا بواقع اليوم 2020 مع بعض التعديلات في الاشخاص، من منا لا يعرف الملك الكامل الايوبي حاكم مصر، الذي تنازل عن القدس مقابل مهادنة الفرنجة لتثبيت حكمه، بل اخوة الملك الكامل نهجوا نهج المستسلمين المهزومين، حيث استعان بعضهم بالفرنجة فكانت السبيل والغاية للتصدي لبعضهم البعض.

إذ بلغ الامر ذروته في عهد الملوك من أبناء الملك العادل الأيوبي، بأن لم تقتصر علاقتهم بالفرنجة الجاثمين على أرض فلسطين ولبنان وسوريا على المسالمة والمهادنة فحسب، بل تعدت ذلك أيضاً إلى التخلي عن شرف التصدي للغزاة، الامر الذي ساهم ذلك النهج على التربع على عروش مصر وبلاد الشام ثمنا للحفاظ على عروشهم ومصالحهم الضيقة.

مـــا اشبه الامس بواقع اليوم، صفقات وتنازلات عن مدينة القدس، تم التازل عن القدس في العام 1226 ميلادي واستلمها امبراطور الدولة الرومانية فريديرك الثاني، واليوم 2020 تنازل عنها بعض حكام العرب بصفقات وهمية لتجنب الربيع العربي المُفتعل في سبيل الحفاظ على عروشهم ومصالحهم.

الاختلاف الجديد في هذه الايام، أن الغرب لا يرغب بإعادة سنياريو عام 1226 ميلادي، وإنما أوكل من يبرم الصفقات بالنيابة عنه عندما زرع كيان الصهيونية واجج الصراع الديني بين المسيحين العرب والمسلمين القاطنين في فلسطين  كفريق واحد وبين اليهود كفريق ثان كسلطة محتلة، في الوقت الذي احتصل الغرب على ضمان قمع الشعوب العربية من بعض الحكام مقابل حماية بعض العروش الزائلة.

للأسف التخلي عن القدس ليس بحدث غريب عن جينات بعض المسلمين، فاطماع الغرب للوطن العربي والقدس ليست بجديدة، وما زالت الحروب بمسمياتها وأسالبيها المختلفة تحاكي واقع الاستعمار الغربي بشتى الوسائل، فالتحكم في الموارد الطبيعية والتحكم في سياسات معظم الدول العربية وجهان لاحتلال واحد وهو الاحتلال الغربي للوطن العربي.

قد يعتقد البعض أن نيل الدول العربية باستثناء فلسطين للإستقلال، يلامس واقع التمتع بالحقوق والحريات في كل بلد عربي، وأن ذلك الواقع ساهم في استغلال الثروات الطبيعية وتوزيعها بعدل وامانة، وقد يعتقد البعض أن الشعوب العربية تتمتع بالاستقلال السياسي، وذلك الوهن على مدار عقود تحقق بكشف زيف الاستقلال لمعظم الشعوب العربية، التي تم تخديرها على مدار اعوام واعوام، لتستيقظ في نهاية المطاف بقبول المحرمات والتعامل بها من باب الفئوية الضيقة ومن باب تبادل المصالح.

يجب أن نستذكر حال العرب والمسلمين بعد الاتفاقية التي ابرمت في العام 1226، حيث اتجه فريدريك إلى بيت المقدس، ودخل المدينة المقدسة، وفي اليوم التالي دخل كنيسة القيامة، ليُتوّج ملكا على بيت المقدس، حيث اشتد البكاء وعظم الصراخ والعويل، وكما روي في كتب التاريخ أن موجة عارمة من السخط والأسى في العالم الإسلامي وبردة فعل شديدة، خصوصاً عند أهل المدينة، لكن دون جدوى.

من هنا يجب التذكير أن أهل اوروبا (الغرب) لم يستحسنوا طريقة دخول الامبراطور فريديرك الثاني للقدس، ولعل من المفارقة أن نشير إلى ما أحدثه تسليم مدينة القدس وإعادتها إلى الكنيسة ضمن سلطة البابا، لازمه الاستنكار والاستياء من معظم الدول الاوروبية، حيث ذكرت كتب التاريخ أن الغضب لدى اواساط الفرنجة وصل حده لأقصى عبارات الاهانة للإمبراطور المذكور، فرأى بعضهم أن كرامة المسيحية كانت تقضي بأن تنتزع المدينة عنوة بحد السيف من أيدي المسلمين، لا عن طريق التذلل التي توسل بها الإمبراطور إلى الملك الكامل، وكانوا يرون أن استيلاء الفرنجة للمدينة دون استيلائهم على مقدسات المسلمين أمر مرفوض، لا تقبل به نفوس الفرنجة الأبية، وذهبت فئة أخرى إلى القول، بأن الحصول على القدس من دون استعادة الكرك والشوبك والأردن لا قيمة له، ولو كان هذا مقبولاً لقبلوا ما عرضه عليهم المسلمون أيام حصار دمياط.

اخيرا اقول أن احداث الامس تتكرر اليوم، لكن بأشخاص مختلفين، باع البعض مبادئه وتخلى عن قميص العروبة مقابل ثمن بخس، فاتخذ البعض الهوان والذُل في سبيل التشبث بالحكم، لذلك من يعتقد أن حماية القدس تكون بمعاهدات فئوية، فهو واهن ومن يتشدق ويزعم أن تلك الاتفاقيات اوقفت مسلسل التهويد والضم فهو مخادع، فاتفاقياتهم ليست بهدف الوصول للقدس والصلاة فيها، انما للوصول لتل الربيع...

لذلك لما أحس الملك الكامل أنه تورط مع ملك الفرنجة، أخذ يهوّن من أمر تسليم بيت المقدس، ويعلن أنه لم يعط الفرنجة إلا الكنائس والبيوت الخربة، على حين بقي المسجد الأقصى على حاله، غير أن تلك المبررات لم تنطلِ على أحد من الناس.

 ما اشبه يوم أمس باليوم ......

إلا أن القدس بأهلها عنوان الصبر والتحدي، وسيكون الرباط والتشبث فيها درس يلهم احاسيس الشعوب العربية والاسلامية ، بأن ما قام به اسلافهم في الماضي في غزوة الاحزاب، ومن رواده الشك بقدرة الله من ضعفاء النفوس باستحالة النصر، فليعيد حساباته ويقرأ ما انزله الله تبارك وتعالى من آيات محكمات من القرآن ليكون درسا لكل البشرية في سورة الاحزاب، أن الصبر مفتاح الفرج .....وما زال الشك يرواد بعض ضعفاء النفوس اليوم ، فالتاريخ يعيد نفسه....

وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۖ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا (7لِّيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ ۚ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا..... إلى أن حقق الله النصر للمؤمنين.....فقال :

لِّيَجۡزِيَ ٱللَّهُ ٱلصَّٰدِقِينَ بِصِدۡقِهِمۡ وَيُعَذِّبَ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ إِن شَآءَ أَوۡ يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا (24) وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيۡظِهِمۡ لَمۡ يَنَالُواْ خَيۡرٗاۚ وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلۡقِتَالَۚ وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزٗا (25) وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَٰهَرُوهُم مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مِن صَيَاصِيهِمۡ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَ فَرِيقٗا تَقۡتُلُونَ وَتَأۡسِرُونَ فَرِيقٗا (26) وَأَوۡرَثَكُمۡ أَرۡضَهُمۡ وَدِيَٰرَهُمۡ وَأَمۡوَٰلَهُمۡ وَأَرۡضٗا لَّمۡ تَطَ‍ُٔوهَاۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٗا 

فهل يصل ذات الاحساس لملوك وزعماء العرب أم بعد فوات الاوان.....