- 1 آب 2024
- مقدسيات
بقلم : إبراهيم نصر الله
ثمة ما يدعو للغضب، ثمة الكثير الذي يدعو للغضب، لكن الغضب لم يعد جزءًا من عالمنا العربي بعد تسعة أشهر من الإبادة الجماعية، شوارع نائمة وجامعات نائمة، وكثير جدًا من المبدعين النائمين، وكثير من المثقفين الذين يتقنون هجاء كل مَن يتألم وهو يشير إلى جرحه ويقول: آه، سواء كان ذلك في قصيدة أو أغنية أو لوحة، لأنهم منشغلون بالدفاع عن طهارة الصمت التي يَعِدوْنَ بها قصائدهم بطاقةً للخلود.
لم يكن الوضع في أيّ يوم من الأيام هكذا، فتهافُت التهافت ظلَّ يتهافت إلى أن وصل إلى تهافتٍ لا تهافتَ بعده.
كانت الجزائر تحت الاستعمار تجد صوتها في الشعر والغناء والفنون كلها، وكذلك فيتنام، وشعب جنوب إفريقيا، وفلسطين، ولم يكن محمود درويش يُهاجَم إذا كتبَ: يا داميَ العينين والكفّين إن الليل زائل»، و»حاصر حصارك لا مفرُّ/ سقطت ذراعكَ فالتقطها/ واضربْ عدوّك بي فأنتَ الآن حرُّ».
الآن هناك عشرات الآلاف من الأذرع والرؤوس والأرجل وعيون الأطفال تتناثر من غزة، ومن الضفة الغربية، ومن لبنان واليمن، وتدقّ شبابيك وأبواب البشر في كلّ مكان، في عالمنا العربي وغيره، ولا يستجيب إلّا أصحاب الضمائر في العالم، من شباب وشابات ورجال ونساء، وشبابنا في جامعات الغرب والشرق وهم يقاومون ويتعرّضون لأقسى العقوبات؛ شبابنا الذي تحرّروا من هراوات أنظمة العالم العربي القمعية كلها، ووجدوا أصواتهم هناك، وعثروا بقوَّتهم على كرامتهم ومعنى وجودهم، وشرف وعيهم برفضهم للمذلة والقمع وكتْم الأرواح والضمائر ومعنى الإنسانية.
لم يكن الوضع في أيّ يوم من الأيام هكذا، فتهافُت التهافت ظلَّ يتهافت إلى أن وصل إلى تهافتٍ لا تهافت بعده.
كان الفلسطيني في فلسطين البحريّة بعد النكبة، وظلّ منغرسًا في أرضه، فصار شمس الضمير العربي، ولم يكن هناك من يهجو سميح القاسم وهو يكتب «منتصب القامة أمشي/ مرفوع الهامة أمشي/ في كفي قصفة زيتون وعلى كتفي نعشي» و«تقدموا.. تقدموا». ولم يكن هناك من يهجو توفيق زياد وهو يكتب «أناديكم. أشد على أياديكم»، أو راشد حسين وهو يكتب منذ عشرات السنوات كما لو أنه يكتب عن حال عالمنا العربي اليوم «الشمس لم تجزع لمصرعِه ولا غابَ القمرْ/ والأرضُ لا هي زُلزِلَتْ أسفاً ولا نزل المطرْ».
كان للآذان شرفها وهي تستمع، وللقلب نبضة وهو يخفق، وللروح غصّتها وهي تئن، وللغة شجاعتها وهي تتكلّم، وللشارع ناسه وهو ينهض، وللسماء معناها حين تغضب، وللساسة خجلهم وهم يكذبون.
حتى الكذب باتت فلسطين محرومة منه!
في عام النكبة تجمّعت حفنة أنظمة وكذبت حين قالت إنها ستحرر فلسطين، رغم أنها كلها كانت تحت حكم الاستعمار، لقد امتلكت جرأة أن تكذب وهي تبكي مصيرًا فلسطينيًا مهددًا بالهجمة الصهيونية. كان هناك القليل من الخجل الذي يدفعها لأن تكذب، أو تخدع، وهي ذاهبة لا لتنتصر بل لتُهْزَم. أما اليوم فهي لم تعد مضطرَّة لأن تكذب، ليس هناك من يجرؤ على الكذب، لأن الادعاء بنصرة الفلسطينيين بات شكلًا من أشكال التمرد على العدوّ الصهيوني، عليها أن توافق على كل ما يفعله العدو، وأن تقف متفرجة فحسب، فالفرجة هي المقاومة الوحيدة المسموح بها لهذه الأنظمة كلها.
.. وينهض مثقفون عرب بكامل طهارتهم اللغوية، وبكامل حرصهم على نصاعة القصائد ليطالبوا المثقفين الفلسطينيين والعرب أن يصمتوا، وأن يتفرّجوا فقط بأعين مُغمضة، وأن يكمموا أفواه القصائد والأغنيات وأن يفقأوا عيون ضمائرهم وقلوبهم، وأن يمتدحوا بلاغة الصمت، وتخفّف الكلمات من معناها. هؤلاء القامعون الذين لو عاد بابلو نيرودا اليوم ليقرأ «تعالوا انظروا الدم في الشوارع»، لصرخوا في وجهه: أي دم تقصد؟
إنهم يحتفون بكل قصيدة تُكتب عن الموت، بشرط ألّا يكون هذا الموت هو الموت الفلسطيني.
إنهم يحتفون بعتبات البيوت ونوافذها وأبوابها، بشرط ألا تكون هذه البيوت هي بيوت الفلسطينيين التي تُدمر الآن.
إنهم يحتفون بأرصفة المدن ونهاراتها ولياليها وبقصص حبٍّ تولد وأخرى تنتهي، بشرط ألّا تكون هذه المدن مدنًا فلسطينية، وألّا يكون العشاق فلسطينيين.
إنهم يلعنون الجدران التي تحجب مشاهدتهم زهرة أو حبيبة، لكنهم يأنفون من قصيدة عن مدرسة فلسطينية مرّ من ساحتها جدار الفصل العنصري وجعلها مدرستين.
محزن أن يصمت مبدعو بعض البلاد العربية بأكملهم كما يحدث الآن، محزن أن يطلب أحد الكتاب العرب تمَّ استكتابه لتقديم شهادة عن غزة ستنشر في كتاب يصدر في فلسطين، محزن أن يطلب من محرّري الكتاب أن تُنشر شهادته باسم مستعار!
أي استعمار هذا الذي يرزح تحته مبدع عربي ليطلب طلبًا كهذا، وأي جُبْن ذاك الذي يمنعه من أن يقول شيئًا ما، بالطريقة التي يريدها، عن أثر ما يحدث في غزة على ضميره.
نقول ذلك كله من دون أن ننسى أبدًا ما يتعرض له شبابنا العرب هنا من قمع وسجن وحرمان من التخرّج، كما حدث وأن رفض عميد إحدى الكليات العربية تخريج طالبة لأنها تضع على كتفيها الكوفيّة الفلسطينيّة، ومن دون أن ننسى المظاهرات التي اشتعلتْ والمظاهرات التي انطفأت.
المثقف العربي «المكارثي» يكتُم صرخته بيديه، وحين يطمئن أنه كتمها تمتدُّ يداه إلى أفواه الكتاب الفلسطينيين والكتاب العرب بعد ذلك لكتم صرخاتهم، بحجة دفاعه عن طهارة اللغة والشعر والكتابة، هو نفسه الذي سيُحاكِم وينفي ويَسحق كل من يقول اليوم «لا»، من أمل دنقل إلى ناجي العلي.
وبعد:
لم تنهزم فلسطين، ولن تُهزم، فلسطين التي تقاتل من مائة عام، ولكن كُثْرًا حولنا اليوم يهيئون مقاعدهم لاحتفال هزيمتها الذي يتمنَّون، ويحجزون أمكنتهم في صفوف لجان محاكم التفتيش القادمة، التي تُطلّ برؤوسها منذ سنوات، لمحاكمة محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وأمل دنقل وناجي العلي وإسماعيل شموط وغسان كنفاني الذي تجرأ وقال «لماذا لم يدّقوا جدران الخزان»، ومارسيل خليفة وأحمد قعبور وخالد الهبر وفيروز العظيمة التي تجرأتْ أن تغنّي «القدس لنا»، والشيخ إمام ومعه أحمد فؤاد نجم على جريمتهما لأنهما كتبا وأنشدا «يا فلسطينيّه وانا بدّي اسافر حداكو/ ناري في ايديّه/ وايديّه تنزل معاكو/ على راس الحيّه/ وتموت شريعة هولاكو»، ومصطفى الكرد لأنه غنى «يمّا مويل الهوى يمّا مواليّا/ ضرب الخناجر ولا حُكْم النذل فيّا»، وسيستدعون سيد مكاوي مُصفَّدًا وآثار التعذيب عليه، وهم يصرخون في وجهه: كيف تجرّأتَ أن تغني «الأرض بتتكلّم عربي» وقد يكتشف أحدهم، بعد فوات الأوان، أنهم لم يكونوا يدافعون عن طهارة اللغة العربية بل طهارة اللغة العبرية.
عن القدس العربي