- 9 أيلول 2024
- مقدسيات
القدس - أخبار البلد - بعد إعلان سلطة المطارات والموانئ الاسرائيلية انها قررت اغلاق جسر اللنبي ( الملك حسين ) لليوم الثاني على التوالي ( يوم الاثنين) ، أصيب الشارع المقدسي بحالة من القلق والتوتر خاصة وان هذا الجسر بات هو البوابة نحو العالم، ولهذا فإنه العديد قد خسروا رحلاتهم الجوية الى خارج الاردن كما ان العديد أيضا قرروا تغيير برامجهم بسبب ذلك .
ورغم هذا الوضع غير المسبوق إلا أن الجميع في القدس وفي بقية فلسطين يتفقون على أن المرور عبر الجسر ذهابا واياب تعتبر رحلة عذاب وقاسية بكل المقاييس لما يواجهه المسافر من القدس والضفة الغربية من متاعب ومشقة، واذلال وسوء معاملة فقط لأنه فلسطيني .
وهنا نذكر ما كتبه قبل عامين الأكاديمي والصحفي "مصطفى بدر" من بيت لحم تحت عنوان "ثرثرة فوق نهر الأردن" ولهذا فإننا في " أخبار البلد" نعيد نشرها تأكيدا على معاناة الفلسطيني عبر الجسر التي نتمنى ذات يوم أن تنتهى، وهذا لن يحدث الا اذا تقرر ان يتم التعامل مع هذا المخلوق القادم من القدس والضفة الغربية كإنسان ، وليس كتهديد.
"السفر قطعةٌ من العذاب"، وهذا حديثٌ نبويٌّ صحيح، ومن لا يُدرك هويّة قائله يقول عندما يجرّب السفر على جسر الملك حسين (جسر ألنبي): "أن العذاب قطعةٌ من السفر". هذا ما كنّا نتمتم به وضيق الحال ينهش أعصابنا من الانتظار الطويل لساعات، و حافلتنا معلّقةٌ فوق الجسر الاسمنتيٌ الجديد الذي موّلته حكومة اليابان كما تُخبرنا لوحةٌ صغيرةٌ على إحدى سواريه، وضعها المموّلون؛ ربما لتذكير العابرين أن أحداً تصدّق عليهم من الشرق الأقصى. الحافلات مكدّسةٌ أمامنا وأكثر منها خلفنا، وقد أصبحنا خارج نطاق الجانب الأردنيّ لكننا لم ندخُل بَعد أرضنا المحتلّة.
أمامنا على الضفّة الغربيّة جلس موظّف إدارة المعابر الإسرائيليّ في غرفةٍ صغيرة تحت جهاز التكييف، فيما كُنّا نغلي لا من حرارة أخفض بُقَع العالم، بل من برود أعصابه، كل ما عليه فعله هو ضغطةٌ على زرٍ صغير، فتُفتح البوّابة وتمرّ حافلةٌ أخرى لتعلن اقتراب نهاية الانتظار، والذي كنّا متيقنين بأنه لن يكون الانتظار الأخير في رحلة العودة إلى الوطن. فعلى بُعد أمتارٍ ليس أكثر من البوّابة ستتوقّف حافلتنا وننزل في العراء إلى قفصٍ مسيّج تغطيه مظلةٌ معدنيّة لتفتيشٍ يخلو من المنطق الأمنيّ ولا يخلو من الإهانة، وهي تلك النقطة ذاتها التي سيستشهد فيها القاضي رائد زعيتر بعد حوالي ثلاث سنوات -قبل أن يتم إلغاؤها نهائياً- ليس لشيءٍ إلّا لأنه رفض أن تتمّ إهانته وصاح بالجنود الذين اعتدوا عليه مُكبّراً.
وبعدها سيستقبلنا انتظارٌ آخر قد يكون أطوَل أمام بوابة المعبر "الإسرائيليّ"، ثم انتظارٌ داخل حدود المعبر ريثما ينتهي ركّاب الحافلة التي سبقتنا من العثور على حقائبهم وينتهي عمّال المعبر من إفراغ حافلتنا من الحقائب، فننزل معتقدين أننا سنجد عزاءً لانتظارنا كلّ ما فات من ساعات بالفسحة الزمنيّة الصغيرة المخصصة لنا كي نلتقط حقائبنا ونكمل سيرنا.
لكننا سنُصدم كلّ مرّة بأن ركّاب الحافلة السابقة لازالوا أمامنا، وننجرف أمام الفوضى العارمة التي لا يصمد فيها الخجول، فنتسابق ونتدافع ونتشاجر أحياناً، ليحمل كلٌ منّا حقيبته ويمشي ما لا يتجاوز العشرة أمتار، لنقع فريسةً لابتزاز حمّالي الحقائب الطامعين برُشىً مُقابل تسريع عمليّة إدخال حقائبنا لمنطقة التفتيش بعد أن يضع عليها موظّف المعابر ملصقاً.
كل هذا وحارس الأمن الإسرائيليّ وبندقيته يراقبان. ولا ينتهي الانتظار، فأمامنا بعد ذلك بأمتارٍ نقطةٌ سنُصنّف بها حسب ظاهرنا رُبما أو عشوائيّاً أو لحاسّةٍ سادسةٍ لا نعلم بها، وبناءً على التقييم الذي ستضعه الموظّفة على ملصقٍ آخر على جواز سفرنا، فإن نقطة التفتيش الشخصيّ التي تليها ستكون يسيرةً أو عسيرة، بدءاً بالمرور على جهاز الكشف عن المعادن وانتهاءاً بتفتيشٍ جسديٍ دقيق تحت وطأة السلاح في غرفةٍ جانبيّة.
وسنتعب من التفكير عندما نتذكر أنه لازال أمامنا بعد ذلك انتظار ختم الجوازات والذي قد يسير سَلِساً أو يُدخلنا لمحقّق المخابرات، ثم انتظار الانتهاء من تفتيش الحقائب، والعثور على الحقائب، والجمارك الإسرائيليّة، وشراء تذكرةٍ للحافلة التي ستنقلنا إلى استراحة أريحا، وهناك سنضطرّ لتمثيل دورنا في مسرحيّة السيادة الوطنيّة فنختم جوازات سفرنا و تمر عبر الجمارك الفلسطينيّة وأحياناً يُحقّق معنا، ثم يأتي دَور رحلة العودة التي نبدأها بانتظارٍ قد يمتدّ لدقائق أو لساعاتٍ حتى تمتلىء سيّارة الأجرة، لتذهب بنا في رحلةٍ أخرى من الحواجز والعقبات.
وكجزءٍ من تسليمنا بما هو آتٍ، تحوّلت حافلتنا إلى مجتمعٍ صغير نتعايش فيه مع بعضنا وكأننا في مخيّمٍ للاجئين فُرض علينا فيه أن ننسلخ عمّا مضى من حياتنا ونعيش حياةً أخرى مع جيرانٍ جُدُد.
بجانبي جلس طبيب الأسنان الثلاثينيّ، وقد رأى الكثير خلال العقود الثلاثة التي عاشها منذ نشأته لاجئاً في سوريا، وحتى عاد وأسرته مع من عاد بعد أوسلو واستقرّ بهم الحال في رام الله. وفيما ساقته ظروف مجتمعنا الصغير في الجزء الخلفيّ من الحافلة وتركيبته الديموغرافيّة ليكون حكواتيّاً بنَفَسِه الثوريّ، قصّ علينا حكايته مع سيّارته البي أم دبليو الألمانيّة الرياضيّة الفارهة، والتي لم يغسلها ولو لمرّةٍ منذ أن اشتراها. - لماذا؟
- لأنني قد حلفت يميناً بألا تُغسل سيّارتي إلا بمياه البحر على شاطىء يافا.
تكسّرت أمواج ردود الفعل الساخرة أمام إيمانه الصلب والعميق، وبينما كنّا نعيش مرحلةً بدا فيها صراعنا بلا حلٍ أو أمل، كان طبيبنا يفيض أملاً على قلوب الآخرين، وفيما افترق مجتمعنا الصغير وتشتّت من جديد بعد أن نزلنا من الحافلة، تلاشى هو بين جموع الذين راح كلٌ منهم يبحث عن حقيبته، ودخلنا في مرحلةٍ جديدةٍ وانتظارٍ جديد، ولازلنا منذ ٧٦ عاماً ننتظر، وسننتظر..
لكن هذه المرٌة قد لا يطول الانتظار