- 29 حزيران 2025
- مقدسيات
القدس - أخبار البلد - كتب نافذ عسيلة
القدس ليست مجرد أسماء مرسومة على خريطة أو حجارة تُزار وتُنسى، بل هي ذاكرة تنبض بالحياة في أزقتها، حيث تتعانق رائحة البخور والزعتر، وتتمازج أصوات الأذان وأجراس الكنائس مع ضحكات الأطفال عند باب العامود. في هذا المكان، يلتقي المقدس بيوميات الناس، فتصير كل زاوية حكاية، كل وجه صفحة من رواية.
هذه لمحات من حياة تنساب بلا توقف كجدول لا يعرف السكون، نلتقطها من الأسواق من البيوت من نداءات الباعة من صمت الحجارة التي شهدت قروناً من الصلاة والدم. نرويها كما نسمعها، لأن القدس لا تحتاج إلى تشكيل لتُقرأ، فملامحها بادية في وجوه أهلها وفي تفاصيل حياتهم.
لا نحكي عن تاريخ المدينة فقط، بل عن أنفاسها، عن أرغفة محترقة، عند باب حطة، عن جنود يبدلون بوابات الحارات، عن مدينة تصلي وتعيش وتقاوم. إنها رحلة في جغرافيا الروح، حيث تسكن القدس في ذاكرة ناسها وجدرانها.
في القدس، لا ينام الصوت ولا تستكين الأرواح، مع أول خيوط الفجر يتعانق أذان المسجد الأقصى مع قرع أجراس كنيسة القيامة، وفي الخلفية صوت خطوات اليهود المتجهين نحو حائط البراق، يحملون كتب صلواتهم بين أيديهم. في شارع صلاح الدين، يعلو نداء البائع بتنجان بتيري يا نسوان، فيما يُسمع صوت حبات المسبحة تنقر بين أصابع شيخ يجلس بهدوء أمام دكان عتيق للعطارة، تفوح منه رائحة الزعتر واليانسون.
فوق أسطح البلدة القديمة، تزقزق العصافير وكأنها تُعلن عن بدء يوم جديد في مدينة لا تعرف الصمت. هناك، بين الحارات الضيقة تختلط اللغات واللهجات، تتقاطع الطرق بين الزوار والسكان، بين من يبحث عن صلاة، من يسعى خلف لقمة عيش ومن يحمل الكاميرا ليوثق لحظة من زمن لا يتوقف. القدس ليست مدينة فقط، بل نسيج حي من صوت وصورة ورائحة، تسكن الروح قبل أن تُرى بالعين.
في القدس، تفاصيل الحياة اليومية تحكي قصصاً لا تنتهي. امرأة ترتدي جلباباً، تحمل طبق المعمول بيدها، تمشي بخطى هادئة نحو بيت جارتها المسيحية في حارة النصارى، تسبقها رائحة الطعام، تلحق بها دفء العلاقة التي لم تنل منها الجدران غير المرئية ولا الحواجز الصامتة.
في شارع المصرارة قرب باب العامود، يجلس شابان على مقعد قديم، يتشاركان سيجارة ونقاشاً خفيفاً. أحدهما يرتدي قميصاً مطرزاً والآخر قبعة صيفية، يضحكان على نكتة لم تُكمل وكأنهما يعرفان تماماً كيف تنتهي، خلفهما تمر الحياة بإيقاعها المعروف، ضجيج السيارات وخطوات المارة وصوت الأمل الذي لا ينقطع.
في حي الشيخ جراح، يلعب الأطفال كرة القدم بين الأرصفة والبيوت، تلمع عيونهم بالشغف رغم كل شيء، يمر جندي بجانبهم دون أن يلتفت، كأنه مشهد متكرر في مسرحية حفظها الجميع، لكن الأطفال لا يبالون، هم مشغولون بمباراة لا تقبل التعادل، أحلام تكبر معهم رغم صغر الأزقة وضيق المساحة.
في كل زاوية من المدينة، تنسج الحياة خيوطها، امرأة تروي نبتة عند نافذة حجرية، رجل يقرأ الجريدة بصوت مسموع في مقهى صغير، شابة تحمل حقيبة وتعبر ساحة باب الجديد، كأن القدس رغم كل تناقضاتها تعرف كيف تجمع المختلفين في نغمة واحدة لا تنتهي.
في مقهى أبو عمر جابر داخل باب الساهرة، تعبق رائحة القهوة الطازجة في الزوايا، تختلط بأحاديث الزبائن الذين يسترجعون أيام زمان، حين كانت شوارع القدس تُضاء بالفوانيس، حين كانت الناس تعرف بعضها بالاسم وتبادل الخبز والكلام قبل الغروب.
في زاوية باب حطة، يجلس عجوزة أمام الحجارة، تُعد القهوة على الجمر ببطء وهدوء، تتمتم بصوت يسمعه المارة هاي رائحة الأرض ما بتموت، تمر بجانبها طفلة تحمل رغيفاً ساخناً ملفوفاً بالورق، تبتسم للعجوزة وتمضي، كأن الحياة تتوارث بين الأجيال دون أن تقول الكثير.
قريباً من طريق الآلام، يجلس سائح ألماني على طاولة صغيرة، يحاول أن يأكل صحن الحمص بالشوكة، بينما ابو احمد يضحك من قلبه ويقول يا خواجا، هاد الأكل ما بُكال إلا بالأصابع، ويغمس له قطعة خبز ساخنة في الزيت والحمص ويقدمها بمحبة.
وفي الزاوية الأخرى من المقهى، شاب يقرأ ديوان محمود درويش، بينما نادل يملأ فناجين الزبائن ويصافحهم بالاسم، أحدهم يتحدث عن مشكلة مع التأمين الوطني، وآخر يخطط لزفافه في ساحة كنيسة كاثوليكية.
القدس، كما في هذا المقهى، ليست مجرد حجارة وقداسة، بل لحظة حية من التنفس من الضحك العابر من القهوة التي تُقدم دون استعجال من الناس الذين يعرفون أن الروح تسكن التفاصيل الصغيرة قبل أن تسكن المعابد.
يمتد جدار الفصل قرب ضاحية البريد، مكسوًا بالرسوم التي تحولت إلى صرخات فنية شاهدة على الوجع، من بينها لوحة كبيرة لوجه شيرين أبو عاقلة، تلوح إلى المارة كرمز للحق المسلوب، تعلوها عبارة القدس عربية بخط أزرق جريء، كأنها تحد مكتوب على الإسمنت البارد. وعلى بُعد، يصعد درج حجري ضيق في حارة الأرمن، حفرت أقدام المارة على مدى أجيال ملامحه، أحجاره بالية، تشهد على قصص صامتة لعائلات هجرت عام 1948، بيوت بقيت تنتظر عودتهم. في سوق خان الزيت، خلف واجهة زجاجية لمحل عطارة صغير، تصطف مرطبانات الزعتر والسمسم بعناية إلى جانب صورة قديمة للمؤسس، معلقة في زاوية المحل كأنها تحرس الذاكرة، تتحدث ملامحها عن زمن آخر، بينما تختلط رائحة الأعشاب والذكريات في المكان، تصنع حكاية لا تنتهي عن مدينة تنبض بالمقاومة والحنين.
عند باب الأسباط، يوقف شرطي شاباً ويسأله بلهجة جافة هويتك، بينما الشاب يمسك بهاتفه، يشغل أغنية لفيروز بصوت خافت، كأنه يختبئ خلف اللحن من واقع قاس. في الزقاق ذاته، تمر امرأة مسيحية بخطى سريعة في طريق الآلام، وجهها مشدود، عيناها تحملان مزيجاً من الإيمان والعجلة، غير بعيد تلمس سائحة إسبانية الحجارة بأطراف أصابعها وتهمس بدهشة، هنا مشى المسيح، كأنها تلامس الزمن لا الحجر.
القدس ليست مجرد جدران عتيقة ولا حجارة مرصوصة، إنها متحف مفتوح للروح، فيها كل زاوية تنبض بحكاية، وكل ظل يحمل أثر من مروا.
هنا تختلط أصوات المؤذنين بأجراس الكنائس، ويمتزج وقع الخطى بأنفاس التاريخ، فلا فرق بين صوت يعكس صراعاً وآخر يحاول ترميم التعايش.
الحكايات في هذه المدينة لا تُروى فحسب، بل تُحس وتُخزن في الجدران في العيون المتعبة في القهوة المرة في دمى الأطفال التي تُباع على الطريق، الوجع هنا لا يعلو صوته لكنه يسكن التفاصيل الصغيرة، في نظرة عابرة أو تنهيدة في زقاق في رائحة الخبز الطازج أو أغنية تعبر الزمن لتقول نحن ما زلنا هنا.