• 3 تموز 2025
  • مقدسيات

 

القدس - أخبار البلد - كتب نافذ عسيلة

تموز في القدس ليس مجرد شهر حار، بل حالة وجودية تكشف هشاشة الحياة وصلابة الهوية. تحت شمس لا ترحم، يتحول الجسد إلى شاهد، والحرارة إلى خطاب ثقافي. من أزقة البلدة القديمة إلى بيوت الشيخ جراح، ينسج المقدسيون حكاياتهم مع الحر، حيث لا تُقاس الحرارة بالأرقام، بل بتفاصيل الصمود، وظلال شجرة، ورشفة ماء. تموز يختطف الزمن، ليجعل من الألم ذكرى، ومن اللحظة سرداً يعيد تشكيل العلاقة بين الإنسان والمكان.

يُفهم الزمان والمكان في القدس كنسيج مترابط لا يمكن فصله، حيث يُعيد كل فصل صياغة العلاقة بين الإنسان والمحيط. في تموز، تتلاشى الفروق بين المادي والرمزي، ويتحول الشهر إلى تجربة وجودية كاملة. يعرف المقدسيون أن تموز ليس مجرد حرارة مرتفعة، بل ذروة اختبار لقدرتهم على الاحتمال، وموسم يُستدعى فيه الماضي من الذاكرة الجماعية، حين كانت العائلات تلجأ إلى مناطق أكثر ارتفاعاً وبرودة كجبل الزيتون أو أطراف رام الله هرباً من القيظ.

اليوم، تغيرت طرق الهروب من الحر. لم يعد الانتقال مكانياً بقدر ما أصبح اقتصادياً، فمكيفات الهواء، التي كانت رمزاً للرفاهية، تحولت إلى مؤشر طبقي، ترسم حدوداً صامتة بين من يستطيع النجاة من لهيب الصيف ومن يواجهه بصبر الماء والظل فقط.

تتغير ملامح المدينة في تموز كما تتبدل ألوان الضوء على حجارتها القديمة. تكتسي الأحياء المسيحية في البلدة القديمة بأقمشة صفراء ومظلات تُمد بالحبال بين البيوت والدكاكين، محاولة لخلق جزيرة من الظل وسط بحر من الحرارة. في المقابل تتحول ساحات الحرم الشريف إلى فضاءات روحية وجسدية في آن، ملاذاً للمصلين والعابرين الباحثين عن طمأنينة الظل وبرودة الحجارة.

في المقاهي الشعبية، خصوصاً تلك المنتشرة في باب العامود وباب الخليل، يصبح الليل امتداداً للنهار، حيث يجتمع الشباب في مجالس تموزية، يُسرد فيها الكلام كما يسكب الشاي، ويصبح السهر طقساً يعاند لهيب النهار.

حتى الوقت في تموز يمر بطريقة مختلفة، يصبح أكثر كثافة، كما لو أن كل لحظة مشحونة بذكريات أو أسئلة عن الصمود، عن القدرة على الاستمرار وعن الحنين إلى صيف قديم كان أقل قسوة أو ربما كنا فيه أكثر احتمالاً. في تموز، القدس ليست فقط مكاناً، بل تجربة حية، تُقرأ من خلال المراوح اليدوية، ووجوه المارة، وتلك النظرة التي يعرفها أهل المدينة جيداً نظرة تقول هذا الحر مر علينا من قبل، وسيمر مرة أخرى.

في تموز، يصبح الجسد أكثر من كيان بيولوجي، يتحول إلى أرشيف ثقافي حي، يسجل تفاصيل التكيف والمقاومة، ويعبر عن الهوية بلغة الحضور الجسدي. الحركات اليومية والملابس والأطعمة، وحتى الإيماءات البسيطة، تتجاوز وظيفتها النفعية لتصبح إشارات مشبعة بالمعنى.

في الأحياء الإسلامية، تتحول العباءات السوداء التي ترتديها النساء إلى ما يشبه التحدي الحراري، فهي ليست فقط زياً دينياً أو إجتماعياً، بل موقف رمزي من الثبات أمام الحرارة المتصاعدة. في المقابل يفضل الشباب في الحي الأرمني والأحياء المسيحية الألوان الفاتحة والأقمشة الخفيفة، مما يعكس وعياً مختلفاً بالراحة والتأقلم، ويضيف طبقة جديدة من التعدد الثقافي في المدينة.

حتى الحرفيون في سوق خان الزيت وسوق العطارين، وهم غالباً ما يتمسكون بأزيائهم التقليدية، باتوا يجرون تعديلات خفية لتناسب حرارة الصيف، فيفتحون أكمامهم، يختارون أقمشة أكثر خفة، أو يرتدون أغطية رأس جديدة تحميهم من الشمس دون أن تفسد مظهرهم التراثي.

ويظهر المطبخ أيضاً كأداة للمواجهة. أطباق مثل الخيار باللبن وشراب التمر الهندي والخروب وعرق السوس تتحول إلى وصفات شعبية لمقاومة الحر، تحمل في طياتها معرفة تراكمت عبر أجيال. ليست مجرد مأكولات، بل أدوات بقاء موسمية لها طقوسها وتوقيتها.

كبار السن يستعيدون ذكريات زمن كانت فيه وسائل التبريد بدائية ولكن فعالة، حيث كانت الجرار الفخارية تُملأ بالماء وتُخزن في زوايا باردة أو في باطن البيوت الحجرية. كانت البيوت نفسها تبنى بذكاء معماري يجعلها أكثر برودة، بأسقف عالية ونوافذ صغيرة تحاكي قوانين الفيزياء دون علم مسبق بها.

الجسد في تموز لا يصمد فقط، بل يبتكر ويورث طرائق للنجاة من الحر. من وضع اليد على الجبين إلى طريقة الجلوس قرب الجدار في الظل، ومن حمل مروحة يدوية إلى ارتشاف الماء ببطء، تتحول التفاصيل اليومية إلى مفردات في لغة المدينة التي تتحدثها دون صوت، لغة تقول إن البقاء ليس مسألة قوة فقط، بل حيلة وذاكرة وموروث مشترك.

 

تموز في القدس ليس مجرد فصل حار، بل هو اختبار حقيقي للطقوس الدينية في وجه قسوة المناخ. في هذا الشهر، يصبح الإيمان جسداً يمشي في لهيب الواقع، حيث يتحول طريق الآلام إلى مسار تحمله الأقدام المتعبة تحت شمس لا تعرف الرحمة. الحجاج القادمون من بعيد لا يسيرون فقط بحثاً عن الروح، بل يصارعون الجفاف والوهج، وتتحول أجسادهم إلى ظلال باهتة تذوب على الأرصفة القديمة. الكنائس، في لفتة إنسانية، توزع قوارير الماء على المارة كأنها تمنحهم بركة سريعة الزوال، هشة كالماء نفسه.

في المسجد الأقصى، يغدو الوضوء أكثر من طقس ديني، فهو فعل روحي وجسدي معاً، يطهر ويبرد، يخفف من وطأة القيظ ويعيد للمؤمن توازنه وسط حرارة لا تنكسر. بعض المصلين، حين تلسعهم حرارة الحجر، يستحضرون يوم القيامة، فيشعرون أن نار تموز ليست فقط طبيعية، بل تلامس ما ورائي وتفتح باباً للتأمل في المصير والنهاية.

لكن ما يميز تموز أيضاً هو أن المعاناة فيه ليست فردية، بل جماعية. الطقوس الدينية، التي غالباً ما تُؤدى بهدوء، تصبح في هذا الشهر مشهداً علنياً للصبر والتحمل، حيث يختلط العرق بالدعاء، وتتشكل لحظات من التضامن الصامت بين المؤمنين. حتى في لحظات الإرهاق، تبرز مشاهد الرحمة، كمن يناول آخر كوب ماء أو يفرش قطعة قماش ليحمي غيره من الشمس.

وتمتد هذه الحالة إلى التفاصيل الصغيرة المصلون يضعون الصحف أو السجادات القديمة تحت ركبهم لتخفيف وهج الأرض، وتنتشر عبوات المياه المجانية عند أبواب المساجد والكنائس، كأن المدينة كلها قررت أن تتضامن مع أهلها وزوارها في مواجهة الشمس.

في تموز، يصبح الدين أكثر التصاقاً بالحياة اليومية، والطقوس أكثر شفافية، لأنها تُمارس في ظروف قصوى، تتكشف معانيها الحقيقية لا فقط كواجبات، بل كأفعال مقاومة للجفاف الجسدي والروحي.

لا يمكن فصل حرارة تموز عن سخونة المشهد في القدس. ففي الوقت الذي يستعين فيه المستوطنون في حي الشيخ جراح بأجهزة تكييف تعمل بالطاقة الشمسية، تغرق أحياء مثل سلوان في انقطاعات كهربائية، تُفاقم شعور الأهالي بالعزل. الحرارة هنا ليست فقط حالة طقس، بل تتحول إلى أداة قمع غير مباشرة، تتغلغل في تفاصيل الحياة اليومية، فتزيد من الاختناق، وتختبر صبر الناس.

حتى الاحتجاجات التي تندلع في باب العامود ليلاً، تتأثر بحر تموز، فتأخذ إيقاعاً موسمياً، حيث يتصاعد الغضب مع كل درجة حرارة إضافية، وكأن الشمس نفسها تنحاز إلى الغضب الشعبي، تسرع نبضه، وتؤجج صوته.

تموز في القدس ليس شهراً عابراً، بل حالة وجودية مركبة، تنعكس فيها كل تناقضات المدينة بين القداسة والاعتياد بين الكرامة المهددة والعيش اليومي بين من يملكون التبريد ومن يملكون فقط شرفة صغيرة ومروحة بالكاد تدور. في هذا الشهر، لا يُرصد كيف يتحمل المقدسيون الحر فحسب، بل كيف يحولونه إلى نبض مقاومة، إلى حكاية يومية تصنعها النساء على عتبات البيوت، ويكتبها الأطفال في لعبهم تحت الشمس، ويرويها الشبان في صمودهم رغم الحصار غير المعلن.

القدس في تموز تشبه قلباً ينبض بحرارة مضاعفة، تحرق أحياناً، لكنها في كل مرة تعيد التذكير بأن الحياة في هذه المدينة ليست عادية، بل مشروطة بالكرامة وبالقدرة على تحويل أبسط عناصر الطبيعة،  حتى الشمس، إلى فعل سياسي وذاكرة متجددة.