- 9 أيلول 2025
- مقدسيات
القدس- أخبار البلد - كتب نافذ عسيلة
تشكل القدس نسيجاً اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً عميق الجذور يمتد لقرون طويلة، لكنها تواجه اليوم تغييرات كبيرة تعيد رسم ملامحها وتؤثر على حياة سكانها، ضمن ما يعرف بـمستقبلية القدس. هذه الرؤية التخطيطية يروج لها الاحتلال تحت شعارات مثل التحديث والتطوير وجذب الاستثمار، لكنها في الواقع تغير جوهر المدينة وهويتها.
تفهم هذه التحولات عبر التركيز على تفاصيل الحياة اليومية ووضعها في سياقها الثقافي والاجتماعي، لتكشف أن الأمر ليس مجرد مشاريع بنية تحتية أو تحسينات عمرانية، بل عملية منظمة لإعادة تشكيل المدينة اجتماعياً واقتصادياً وديموغرافياً. مستقبلية القدس ليست مجرد خطة تطوير حكومية، بل مشروع أشمل يعيد إنتاج السيطرة على المكان والذاكرة، ويرسخ سردية واحدة تقصي الرواية الفلسطينية، بينما يعزز الطابع الإسرائيلي على حساب التنوع التاريخي للمدينة.
من منظور السكان الفلسطينيين، لا تعتبر هذه التحولات مشاريع تنموية محايدة، بل استمراراً لسياسات تهويد المدينة باستخدام أدوات ناعمة وغير مباشرة. مشاريع التخطيط والاستثمار تؤدي إلى تغيير الهوية البصرية والديموغرافية، حيث يستبدل الطابع العربي الإسلامي والمسيحي بطابع حديث مهيمن يتماشى مع سردية الدولة. ويتم إعادة تنظيم الحيز المكاني عبر خلق مسارات ومساحات تخدم الزوار على حساب الحياة اليومية للسكان.
ينتج عن ذلك إقصاء ممنهج لا يقتصر على الإخلاء القسري أو هدم البيوت فقط، بل يتجلى أيضاً بضغوط اقتصادية ومعيشية متزايدة. ارتفاع الإيجارات وأسعار العقارات، بسبب استحواذ شركات ومستثمرين على العقارات وتحويلها إلى فنادق ومشاريع سياحية، يجعل الاستقرار في القدس صعباً على العائلات الفلسطينية، خاصة الشابة ومتوسطة الدخل. هذا يدفع كثيرين للانتقال إلى أطراف المدينة مثل كفر عقب أو مخيم شعفاط، مما يسبب تفكك العلاقات الاجتماعية وضعف الترابط المجتمعي.
تتحول الأحياء والساحات إلى فضاءات عرض تخدم التصور السياحي ولا تلبي احتياجات السكان. تعتبر أنشطة الحياة اليومية كجلوس كبار السن أو لعب الأطفال عائقاً للجمالية السياحية، مما يخلق توتراً في الفضاء العام ويجعل وجود السكان مشروطاً بمدى قبولهم ضمن المشهد السياحي.
يولد هذا الوضع شعوراً بالاغتراب، حيث يعيش السكان تحت مراقبة مستمرة من كاميرات وزوار لا يفهمون طبيعة المكان، فيشعرون بأنهم غرباء داخل أحيائهم وأن هويتهم تعاد صياغتها ضمن سردية لا تمثلهم.
يواجه الاقتصاد المحلي التقليدي تآكلاً، إذ تختفي الحرف اليدوية والمتاجر العائلية التي كانت تدعم المجتمع، لتحل محلها محلات هدايا تذكارية ومطاعم ومقاهي راقية تخدم السياح. ونتيجة لذلك، يجبر السكان على العمل في وظائف منخفضة الأجر بقطاع السياحة، مما يفقدهم استقلاليتهم وكرامتهم الاقتصادية.
تتشكل في المدينة بنية اقتصادية مزدوجة، اقتصاد سياحي واستثماري يدار بالدولار والشيكل وتسيطر عليه استثمارات خارجية، واقتصاد محلي محدود الموارد لا يلبي حاجات السكان ويعاني من التهميش، مع اتساع الفجوة بينهما وتفاقم التفاوت الاجتماعي والاقتصادي.
ويظهر التمييز أيضاً في البنية التحتية، حيث توجه الاستثمارات لخدمة المشاريع السياحية والفندقية، بينما تعاني الأحياء السكنية الفلسطينية من شبكات متهالكة ونقص في الصيانة والخدمات، مما ينعكس سلباً على جودة حياة السكان.
بهذا، لا تعد مستقبلية القدس مجرد خطة تطوير، بل عملية شاملة لإعادة هندسة المدينة تستخدم أدوات السوق الحرة والاستثمار العالمي لتحقيق أهداف سياسية، تنفذ بأساليب غير مباشرة وتبدو طبيعية، مما يحول الفلسطينيين من أصحاب أرض وهوية إلى عناصر هامشية أو رمزية داخل مشهد يعاد تشكيله ليخدم سردية أحادية تقصي غيرها.
في النهاية، لم يعد النضال من أجل البقاء مواجهة سياسية فقط، بل أصبح معركة يومية اجتماعية واقتصادية ضد سياسات ناعمة تدفع السكان للخروج الطوعي تحت ضغط الظروف المعيشية، في عملية تهجير غير معلنة تفرغ المدينة من أهلها وتحولها إلى فضاء عرض سياحي بلا حياة حقيقية.

