- 11 أيلول 2025
- مقدسيات
القدس - أخبار البلد - كتب نافذ عسيلة
بعد أكثر من خمسين عامًا من الاحتلال، تبلورت علاقة اقتصادية غير متوازنة بين الاقتصاد الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس ونظيره الإسرائيلي، تميزت باعتماد هيكلي عميق ومعقد. لم تنشأ هذه العلاقة كنتيجة طبيعية لتفاعلات السوق، بل جاءت بفعل سياسات إسرائيلية مدروسة هدفت إلى تكريس التبعية الفلسطينية، وتوظيفها لخدمة أهداف تتجاوز الاقتصاد لتشمل أبعادًا سياسية وأمنية.
من خلال السيطرة على المعابر والحدود والموارد الطبيعية، وفرض قيود مشددة على حركة الأفراد والبضائع وشروط تجارية مجحفة، تم تحويل الاقتصاد الفلسطيني إلى سوق مفتوح للمنتجات الإسرائيلية ومصدر دائم لليد العاملة الرخيصة. وبدلًا من تمكين هذا الاقتصاد من التطور، تم تقويض أسسه الإنتاجية وتحويله إلى بنية تابعة تخضع بالكامل للسياسات الإسرائيلية.
تعكس هذه المنظومة كيف تتحول الأدوات الاقتصادية إلى وسائل للضبط والتحكم، حيث تعيق التنمية الفلسطينية، وتمنع قيام اقتصاد مستقل قادر على الاستدامة. في المقابل، تجني إسرائيل فوائد مباشرة من هذه التبعية، أبرزها خفض تكاليف الإنتاج بفضل العمالة الفلسطينية، وتوسيع سوقها من خلال السيطرة على السوق الفلسطيني، ما يضمن لها فائضًا تجاريًا دائمًا.
يشكل العمال الفلسطينيون، لا سيما في الضفة، ركيزة أساسية في هذا السياق، إذ يعمل الكثيرون منهم في قطاعات مثل البناء والزراعة والخدمات داخل إسرائيل، غالبًا في ظروف تفتقر للحماية القانونية والاجتماعية. وتعتمد آلاف الأسر الفلسطينية على هذا الدخل، ما يربط معيشتها اليومية بتقلبات السياسات والإجراءات الإسرائيلية.
وقد عززت الاتفاقيات الاقتصادية، وعلى وجه الخصوص بروتوكول باريس لعام 1994، هذه التبعية، من خلال منح إسرائيل صلاحيات واسعة في إدارة الجوانب الجمركية والضريبية، وحرمان السلطة الفلسطينية من أدوات رسم السياسات الاقتصادية المستقلة. وأسفر ذلك عن بيئة اقتصادية مشوهة تتسم بضعف الإنتاج المحلي، وزيادة الاستهلاك، وغياب الاستثمار في القطاعات الحيوية.
كما تفرض إسرائيل قيودًا ممنهجة على الوصول إلى الأراضي المصنفة أ و ب و ج، ما يعطل خطط التنمية العمرانية ويقيد الاستثمار في البنية التحتية والإنتاج.
وفي القدس، تتخذ هذه السيطرة أشكالًا إضافية، من خلال سحب بطاقات الإقامة، وتقليص الخدمات، وفرض قيود صارمة على البناء، ما يفاقم تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للفلسطينيين في المدينة. كما تشمل هذه السياسات منع التوسع العمراني، وفرض ضرائب مرتفعة، وتهميش القطاعات التجارية الفلسطينية، مقابل دعم الأحياء والمشاريع الاستيطانية، الأمر الذي يخلق بيئة طاردة تدفع السكان نحو الهجرة القسرية أو العزوف عن الاستثمار في مدينتهم.
أما على مستوى السوق، فتسيطر المنتجات الإسرائيلية على أغلب المعروض بفعل سهولة الوصول وجودة نسبية، بينما تواجه السلع الفلسطينية عراقيل متعددة تحد من انتشارها ومنافستها، سواء داخل السوق المحلي أو في التصدير، وهو ما يؤدي إلى استنزاف الموارد الفلسطينية وعرقلة دورانها في مشاريع تنموية مستقلة.
في المقابل، يحقق الاقتصاد الإسرائيلي مكاسب واضحة من هذا الواقع، تتجاوز الأرباح التجارية إلى ترسيخ الهيمنة السياسية، حيث تستخدم التبعية الاقتصادية كوسيلة لعرقلة أي توجه فلسطيني نحو الاستقلال الاقتصادي أو بناء قاعدة تنموية ذاتية. وهذا بدوره يضعف القدرة على المطالبة بالحقوق السياسية والاقتصادية.
ورغم ما تفرضه هذه المنظومة من تكاليف أمنية وإدارية على إسرائيل، إلا أنها تعد، من منظورها السياسي، ثمناً مقبولًا لضمان استمرار السيطرة وتثبيت الوضع القائم.
في هذا السياق المعقد، تبرز مبادرات فلسطينية متنوعة تسعى إلى إيجاد بدائل اقتصادية خارج المنظومة المفروضة، مثل الزراعة الحضرية، والتعاونيات المجتمعية والمقاطعة الاقتصادية. ورغم محدودية تأثيرها في ظل القيود المستمرة، إلا أنها تعبر عن محاولات متجددة للخروج من حالة التبعية وبناء مساحات اقتصادية مستقلة.
وعليه، فإن هذه العلاقة الاقتصادية المختلة لا تعبر عن خلل مؤقت أو ناتج عرضي، بل تمثل أحد أوجه المشروع الاستيطاني، حيث يوظف الاقتصاد كأداة لإعادة تشكيل الحياة اليومية للفلسطينيين، والتحكم في خياراتهم، وإضعاف قدرتهم على التحرر والتنمية. فالتبعية هنا ليست مجرد نتيجة، بل وسيلة لإدارة الصراع وتثبيت السيطرة على الأرض والموارد والبشر.

