• 13 أيلول 2025
  • مقدسيات

 

القدس - أخبار البلد - كتب نافذ عسيلة :

 

 في ظل التغيرات الاقتصادية والاجتماعية المتسارعة التي تشهدها مدينة القدس، بدأت تبرز ظاهرة جديدة تتمثل في استبدال وليمة العرس التقليدية بتقديم ساندويش الشاورما، وهو خيار بات يفضله الكثيرون لما يتمتع به من بساطة وتكلفة منخفضة. هذا التحول لا يقتصر على الجانب المادي فحسب، بل يعكس أيضًا تبدلاً في أنماط التفكير، خصوصًا لدى الأجيال الشابة التي أصبحت تميل إلى الواقعية في التعامل مع مناسبات الزواج، وتفضل توجيه الموارد نحو ما تعتبره أكثر أولوية في بناء الحياة المشتركة، مثل السكن أو التعليم أو الاستقرار المالي.

في مدينة مثل القدس، حيث تتداخل الهويات وتتفاقم التحديات السياسية والمعيشية، يتجاوز هذا التغيير كونه خيارًا فرديًا، ليصبح انعكاسًا لحالة جماعية تسعى إلى التكيف مع واقع ضاغط. ويبدو أن هذه الظاهرة قد فتحت باباً لإعادة النظر في مكونات الطقوس الاجتماعية، وإمكانية تطويرها لتكون أكثر اتساقًا مع الظروف الراهنة دون التفريط بالبعد الرمزي والوظيفة الاجتماعية للاحتفال.

تقليديًا، كانت الوليمة تعد ركناً أساسياً من أركان العرس، ليس فقط كتعبير عن الكرم، بل كوسيلة لتعزيز الروابط العائلية والاجتماعية، وإظهار المكانة والجاه. لكن ما نراه اليوم هو إعادة صياغة لهذه الرمزية، حيث لم يعد التباهي بالطعام أو عدد المدعوين معيارًا لجودة المناسبة أو نجاحها. في المقابل، تكتسب قيم جديدة أهمية متزايدة، مثل البساطة، والخصوصية وتقليل النفقات، مما يعكس تحولات في الذوق العام والمعايير الاجتماعية.

هذا التوجه لا يخلو من الجدل، فبينما يراه البعض خطوة ذكية ومناسبة للواقع، يعتبره آخرون مظهراً من مظاهر تراجع التقاليد الأصيلة، بل وقد يثير نوعًا من الانقسام بين الأجيال، حيث يتمسك كبار السن بالأعراف المتوارثة، بينما يسعى الشباب إلى التخفف من الأعباء المادية والرمزية التي يرونها غير ضرورية.

من منظور أوسع، يمكن اعتبار هذه الظاهرة تجلياً لتأثير العولمة، التي لا تقتصر على الاقتصاد والسياسة فحسب، بل تمتد إلى العادات الغذائية وأنماط الاحتفال. فالشاورما، رغم ارتباطها بثقافات محلية وإقليمية، باتت اليوم جزءاً من الثقافة الاستهلاكية العالمية، ما يجعل حضورها في مناسبات تقليدية كالأعراس مؤشراً على تشابك المحلي بالعالمي، وعلى ولادة أنماط هجينة من الاحتفال تعكس تحولات الهوية.

ورغم ما قد يبدو من بساطة في تقديم ساندويش بدلاً من مأدبة كاملة، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة اختزال العرس أو تفريغه من معناه، بل قد يكون تعبيراً عن رغبة في الحفاظ على جوهر المناسبة، أي الفرح، والتكافل والإعلان الجماعي عن بداية جديدة، ولكن بأسلوب يتماشى مع الإمكانات الحقيقية، بعيداً عن ضغوط المقارنة والتباهي والمظاهر.

ولعل أهم ما تكشفه هذه الظاهرة هو الحاجة إلى مراجعة المنظومة الاجتماعية للزواج برمتها، بما في ذلك المهر، والحفل وتكاليف العرس، في ظل أزمات اقتصادية متراكمة. وقد يمثل هذا التحول بداية لوعي جماعي جديد، يفتح المجال لتأسيس نموذج زواج أكثر عدالة واستدامة، يراعي الإمكانيات ويعيد تعريف الفرح على أسس أكثر واقعية وإنسانية.