- 18 أيلول 2025
- مقدسيات
القدس - أخبار البلد - كتب نافذ عسيلة
في أحد أحواش البلدة القديمة، حيث تروي الحجارة حكايات الزمن، وتختلط رائحة التوابل في أطباق المقلوبة والمجدرة بأصوات الأذان وأجراس الكنائس، عاش زوجان تجربة حياة فريدة. ثلاثون عاماً من الزواج لم تكن مجرد سنوات تمضي، بل لوحة نابضة امتزجت فيها ألوان الفرح والتحدي، الضحك والدموع، الاتفاق والاختلاف.
في هذا المكان العتيق، حيث يحمل كل حجر ذكرى، وتخبئ كل درجة سراً من الماضي، نروي قصة زواج صمد أمام تقلبات الزمن، واستند إلى الصبر والتضحيات وروح الدعابة. بدأت الحكاية حين نسج الزوجان من بساطة العيش سيمفونية سعادة، وهذه هي الرحلة التي نشارككم تفاصيلها.
تعارفا في زمن كانت فيه الكلمة الطيبة أساس العلاقة، والثقة والاحترام دعائمها. تم التعارف عبر الأهل كما كان معتادًا، لكن ما جمعهما تجاوز العادات، أسسا حياتهما على الصدق والمشاركة الحقيقية.
كان الزوج يعمل في مؤسسة أهلية، يعود مساءً محملاً بتجارب الناس، ليستقبله دفء الأحاديث ورائحة القهوة بالهيل. أما الزوجة، فبهدوئها وذكائها، حولت الحياة اليومية إلى طقوس من المحبة، تدير بيتها كأنه مملكة صغيرة، تنسج أيامهما بخيوط من الصبر والعقل والقلب.
ورغم أن الزوج كان ميسور الحال، فإن غنى بيتهما كان في الشراكة العميقة، والحوار المستمر، والضحكة الصادقة التي تسكن الزوايا وتنعش الروح مهما اشتد التعب.
اقتسما الحياة كما يقتسمان ضوء الصباح على فنجان قهوة في المطبخ. زرعا وردة في أصيص صغير، رعياها كما رعيا علاقتهما، بالاهتمام والاستمرار. لم تكن المهام عبئاً، بل تعبيراً عن انسجام يكمل فيه كل منهما الآخر.
حتى في أصعب الأوقات، حين اشتدت التحديات العائلية، واجهاها معاً، يبحثان عن حلول ويكتشفان قوة الرابط الذي يجمعهما. كانت الزوجة معلمة لغة إنجليزية، تمنح الأطفال الأمل رغم إرهاق الأيام، بينما يفتتح الزوج مؤسسته صباحاً ليستمع إلى الشباب ويوجههم، يمنحهم من وقته وقلبه.
نسجا حياة متوازنة، لا تخلو من التعب، لكنها مليئة بالمحبة والاحترام والتفاهم. كل يوم كان صفحة جديدة في كتاب عمرهما. ومع أن النقاشات الحادة لم تغب، خاصة بشأن تربية أطفالهما الستة، فإن قدرتهما على المصالحة ظلت تميز علاقتهما. كانت الزوجة تميل إلى الحزم والانضباط، بينما فضل الزوج الحوار واللين. في لحظات التوتر، كانت الأصوات ترتفع، لكن الكلمة الطيبة وفنجان القهوة المرة كانا كفيلين بإذابة الخلاف، والاحترام المتبادل ظل أساساً ثابتاً.
لم يسعيا للتطابق، بل للتفاهم. فكل اختلاف كان درساً، وكل مصالحة تعمق العلاقة وتزيدها دفئاً. ما أضفى على حياتهما طابعاً خاصاً هو روح الدعابة التي لم تغب. الزوج خفيف الظل بطبيعته، يملأ البيت مرحاً، وعند عودته من أسفاره القصيرة، كان يفاجئ عائلته بهدايا بسيطة لكنها محملة بالمحبة. أما الزوجة، فكانت ترد بخفة ظلها وتعليقاتها الطريفة، بينما أضاف الأولاد ضحكاتهم ومواقفهم لمسة مميزة. الضحكة في بيتهم لم تكن عابرة، بل أسلوب حياة يحميهم من ضغوط الأيام ويعيد التوازن كلما اختل.
القدس لم تكن مجرد مدينة في حياتهما، بل مسرح ذكريات لا تنسى. في أزقتها تعارفا، وتحت قوس في حارة الواد تبادلا الوعود، وعلى درجات باب العمود احتفلا بزواجهما. هناك، تحت ظلال الأسوار، رسما أحلامهما بثقة بأن القادم سيكون أجمل طالما هما معاً. مرت الأعوام، وظلت علاقتهما ثابتة رغم تقلبات الحياة. حتى الشيخوخة جاءت كامتداد طبيعي لحياة اختارا أن يعيشاها ببساطة. كل مساء، يجلسان على المقعد الحجري في فناء البيت، يراقبان الأحفاد ويسترجعان الذكريات، وكأن الزمن لا يمس القلب.
اليوم، وبعد أكثر من ثلاثين عاماً من الشراكة الناضجة، تقاعد الزوج وأصبح أكثر حضوراً في البيت. وجد في التقاعد فسحة جديدة للتعبير عن ذاته، فبدأ يكتب عن القدس، وانخرط في العمل التطوعي داخل مخيم شعفاط، يقدم خبرته لإحدى المؤسسات، مؤمناً بأن لكل إنسان فرصة تستحق الدعم.
يقضي وقته بين القراءة والكتابة والمشاركة المجتمعية، ويستمتع برواية قصص الأبناء والأحفاد كأنها فصول من حكايته الخاصة. يعد الفطور أحياناً، يقرأ الصحف، ويهتم بكتب قديمة طواها الزمن.
أما الزوجة، فما زالت ترعى قطط البيت وتضع الورد في المزهرية، كما اعتادت منذ البداية، تزرع الجمال في كل صباح.
ظلت حياتهما بسيطة، لكنها غنية بالدفء والتفاؤل والرضا. لم يكن السر في المال، بل في التفاهم، والصبر، والمشاركة وفي الضحك الذي لم يغادر جدران البيت.
وهكذا، في قلب القدس، بين أزقتها القديمة ورائحة الكعك بالسمسم التي تعبق في الصباح، كتبا معاً واحدة من أجمل الحكايات. قصة محبة نضجت مع الأيام، وازدهرت رغم التحديات، وظلت حية في كل تفصيله من يومهما الطويل.

