- 9 تشرين أول 2025
- مقدسيات
بقلم : مازن الجعبري*
القدس المحتلة: تُشكّل مؤسسات المجتمع المدني في القدس ركيزة أساسية وركنًا من أركان الوجود الفلسطيني، وعنوانًا بارزًا للصمود الاجتماعي والثقافي في المدينة. فهي ليست مجرد مقدمي خدمات ومساعدات، بل هي حاضنة للهوية الوطنية، ومدافعة عن الحقوق والمصلحة العامة. بيد أن هذه المؤسسات تواجه اليوم تحديات وجودية تهدد استدامتها وفعاليتها، تتداخل فيها سياسة الاحتلال الإسرائيلي الممنهجة مع علل داخلية فلسطينية، وضعف الرقابة، وإشكالية التمويل، وابتعادها التدريجي عن حاضنتها الشعبية. هذا الواقع المركب يفرض أسئلة مصيرية عن مستقبل العمل المدني في القدس، لكن الإجابة لا تكمن في البحث عن جوانب الخلل فحسب، بل في خوض معركة الشرعية الداخلية التي تبدأ باستعادة الطابع المدني والجماهيري لمؤسسات المجتمع المدني.
يُظهر المشهد الراهن تراجعًا واضحًا في فاعلية وطبيعة عمل مؤسسات المجتمع المدني في القدس مقارنةً بما كانت عليه قبل الحرب الحالية. إذ تواجه العديد من هذه المؤسسات أزمة تمويل حادّة تؤثر على استمراريتها وقدرتها على تنفيذ برامجها، بينما تتمتع قلةٌ منها بوفرة مالية نسبية تُمكّنها من الحفاظ على مستوى معين من النشاط والبرمجة. وفي المقابل، تنفذ مؤسسات أخرى برامج لا تستجيب بشكل كافٍ للاحتياجات الأساسية للمجتمع المحلي. ويُفاقم هذا التحدي غياب التنسيق والتشبيك الفعّال بين المؤسسات، الأمر الذي يحول دون تطوير تدخلات وبرامج متكاملة قادرة على مواكبة الاحتياجات المجتمعية المتزايدة والتعقيدات الناتجة عن الأوضاع السياسية الراهنة.
وفي ظل هذا الضعف البنيوي والثقافي، يظلّ قطاع واسع من سكان القدس معتمدًا على هذه المؤسسات لتلبية احتياجاتهم اليومية الأساسية، ما يجعل أزمتها انعكاسًا مباشرًا لأزمة مجتمعية أعمق. لا يمكن إرجاع نقاط الضعف إلى العوامل الخارجية وحدها، فهناك إشكاليات هيكلية داخلية جسيمة. تأتي في مقدمتها اختراق الصراعات الداخلية والفئوية والمناطقية لجسد هذه المؤسسات، حيث حول التنافس الحزبي والولاءات العائلية العديد منها إلى ساحات صراع ونفوذ، مما أفقدها استقلاليتها ككيانات مجتمع مدني. كما أن إشكالات الإدارة وضعف التخطيط طويل المدى يقوضان قدرتها على البقاء، ويسهم نقص الكوادر المؤهلة في تفاقم هذه الأزمة، لكن جذر المشكلة يكمن في الانفصال التدريجي عن الحاضنة الشعبية التي كانت مصدر قوتها وشرعيتها الأولى.
إلى جانب هذه العلل الذاتية، تمارس السلطات الإسرائيلية سياسات ممنهجة لخنق الفعل المدني في القدس عبر عرقلة التسجيل، وفرض قيود على الأنشطة، وتفتيش المقرات، وإغلاق المؤسسات. هذه الإجراءات، على خطورتها، تنجح أكثر حينما تجد المؤسسة نفسها ضعيفة ومفتقرة إلى سند مجتمعي حقيقي يدافع عنها. كما يظل دور السلطة الفلسطينية إزاء المجتمع المدني في القدس غامضًا ومتناقضًا، بين نظرة الريبة أحيانًا وغياب الاستراتيجية الداعمة أحيانًا أخرى، مما أضعف القدرة الداخلية والخارجية على المواجهة.
شهدت المؤسسات تحولاً جوهريًا قلص من دورها المجتمعي، حيث أصبح التمويل المشروط هو الموجه الرئيسي لبرامجها، وهيمنت أجندة المانحين على حساب الأولويات الوطنية. ورافق ذلك ظاهرة تضخم الهياكل الإدارية على حساب البرامج التنموية. وكانت النتيجة الحتمية هي تراجع الثقة المجتمعية، حيث بدأت هذه المؤسسات تفقد شرعيتها في نظر الجمهور مع تحول أولويتها من خدمة المجتمع إلى ضمان بقائها المؤسسي، هذا الغياب للمحاسبة والرقابة الفاعلة أدى إلى تحول بعضها إلى إقطاعيات شخصية أو فئوية.
في ظل هذا المشهد المعقد، تبدو الحلول التقليدية التي تعتمد على الترقيع والسيطرة على المؤسسات دون رؤية، وطلب تمويل إضافي مجرد اجراءات غير كافية. فالإنقاذ الحقيقي يكمن في استعادة الدعم الشعبي للمؤسسات، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا من خلال اعتماد نهج يركز الاصلاح والتطوير الداخلي كقاعدة أساسية. إذ إن العودة إلى الحاضنة الشعبية تشكل الأساس الذي تبنى عليه كافة الحلول الأخرى:
الركيزة الأولى: العودة إلى الحاضنة الشعبية
أي محاولة حقيقية للإصلاح يجب أن تبدأ من هنا. على المؤسسات أن تستعيد دورها كجزء عضوي من نسيج الناس، معبّرة عن تطلعاتهم ومدافعة عن قضاياهم اليومية. هذه العودة تعني التحول من منطق مقدم الخدمة إلى منطق الشريك في العمل. عندما تنجح المؤسسة في أن تصبح قضية الناس، سيدافع الناس عنها لأنها أصبحت معبرة عنهم. هذه الشرعية هي المناعة الحقيقية التي تواجه محاولات التذويب، وهي الحصن الذي يحميها من الضغوط الخارجية، وهي المصدر الأقوى للتمويل والدعم المعنوي. بدون هذه الخطوة، تبقى أي محاولات إصلاح لاحقة هشة وقابلة للانهيار.
الركيزة الثانية: الإصلاح الداخلي
بعد استعادة البوصلة المجتمعية، تأتي مرحلة الإصلاح الداخلي، وهو عملية تطوعية جريئة تقوم على محاسبة ذاتية، تخلص المؤسسة من رواسب الصراعات الشخصية والفئوية، وتستعيد قيم العمل المجتمعي التطوعي والمدني في عملها. هذا يعني اختيار الكفاءات بعيدًا عن المحسوبيات، ووضع مصلحة المجتمع فوق أي مصالح ضيقة، وإعادة توجيه البرامج لتعكس الاحتياجات الحقيقية التي تم الاستماع إليها من الشارع.
الركيزة الثالثة: الحوكمة والشفافية والرقابة.
تستلزم الحوكمة الفعّالة في مؤسسات المجتمع المدني الالتزام بمجموعة من القيم والمبادئ التنظيمية، أهمها الشفافية المالية والإدارية، والمساءلة، والانتقال الديمقراطي في مجالس الادارة، إضافة إلى تنظيم حرية عمل نقابات العاملين وتمكينهم. كما تتطلب الحوكمة تطبيق آليات رقابة موضوعية تضمن النزاهة وتعزز الثقة العامة وتُسهم في تحسين الأداء المؤسسي. وفي إطار الإصلاح المؤسسي، يُعدّ تعزيز قدرة المؤسسات على التكيف مع المتغيرات وتطوير برامجها الداخلية أمرًا حيويا، من خلال ربط النتائج بمعايير تقييم واضحة وموضوعية. ويساهم ترسيخ مبادئ الاستقلالية المؤسسية والالتزام الوطني وتحييد التأثيرات الشخصية في تعزيز الكفاءة.
ندعو مؤسسات المجتمع المدني في القدس إلى تجديد التزامها الثابت بدورها الوطني والاجتماعي، وتعزيز حضورها كمكوّن أساسي في حماية الهوية الفلسطينية ودعم صمود المجتمع المقدسي. وانطلاقًا من هذا الالتزام، نوصي بتأسيس شبكة أو رابطة رسمية تضم هذه المؤسسات، لتكون إطارًا تنسيقيًا جامعًا يهدف إلى تعزيز التكامل، وتوحيد الجهود، وتبادل الخبرات بما يرفع من مستوى التأثير والفاعلية.
كما نؤكد على ضرورة اختيار جهة مؤسسية مستقلة وموثوقة تشرف على الانتخابات الداخلية ضمن هذه المؤسسات، بما يضمن الشفافية والنزاهة ويعزز ثقة الجمهور والممولين. ونرى أهمية إعادة هيكلة الهيئات العامة بما يضمن انضمام أعضاء مؤهلين ومختصين وفق معايير الكفاءة والمهنية، بعيدًا عن أي أشكال من المحاصصة السياسية أو المناطقية.
ولتحقيق هذه الأهداف، نؤكد الحاجة إلى مراجعة جريئة وموضوعية للواقع المؤسسي الراهن، وإلى ترسيخ ثقافة الشراكة والعمل الجماعي، لتكون مؤسسات المجتمع المدني في القدس أكثر قدرة على مواجهة التحديات الراهنة، وتعزيز صمود المجتمع، وتحقيق رسالتها الوطنية والإنسانية بكفاءة وفاعلية.
*كاتب ومحلل سياسي

