• 23 تشرين أول 2025
  • مقدسيات

 القدس - أخبار البلد - كتب نافذ عسيلة 

 

بين جدران البلدة القديمة، حيث يلتقي عبق التاريخ بنبض الحياة اليومية، يقف سوق الباشورة شاهداً على قدرة المدينة على التجدد. لا يقتصر دوره على كونه مكاناً لتبادل السلع، بل يشكل فضاء حيوياً تنبض فيه الذاكرة والهوية. هنا، تتحول الملابس المستعملة إلى قصص، ترويها الأكمام والطيات وتختزن في ثناياها ملامح من مروا بها وأحلام من سيقتنيها لاحقاً.

في زقاقه الضيق، يصبح اقتناء معطف قديم أو فستان مزخرف طقساً للمشاركة في سرد جماعي يتجاوز الفرد. مكان تذوب فيه الفوارق، ويجد فيه الطالب والعامل والموظف ما يلامس احتياجاتهم وأحلامهم. الباشورة ليس مجرد سوق شعبي، بل جزء من وجدان المدينة، ودرع اجتماعي يحفظ ذاكرتها في وجه التآكل والنسيان.

لم يكن السوق مجرد مكان لبيع الألبسة، بل عالماً يفيض بالحياة، تتنفس فيه الذاكرة، وتنعكس فيه تعقيدات المدينة. كانت زيارته أشبه برحلة في أرشيف مفتوح، لا تقتصر على الأقمشة، بل تشمل الوجوه والقصص والأصوات التي علقت في زواياه.

قبل أن تراه العين، كانت الحواس الأخرى تكتشفه، رائحة القهوة الثقيلة، غبار الجدران العتيقة، عطر التوابل من الأسواق المجاورة، ورائحة القماش المحمل بعبق الماضي. أما الأصوات، فكانت مزيجاً من نداءات الباعة، همسات الزبائن، وضحكات الأطفال المختبئين بين الملابس.

كل قطعة تحمل تاريخين، ما مضى، وما سيأتي. لم يكن الشراء مجرد اختيار لمقاس أو لون، بل تصفح لحكاية غير مكتوبة. بدلة قديمة قد تخفي في جيبها تذكرة قطار، تحكي عن رجل أعمال أو حفل زفاف. المشتري لا يقتني قماشاً، بل يشتري حلماً، وربما لمسة من وقار ماض. ومعاطف الشتاء، بما تحمله من دفء، تذكر بشتاءات القدس وصغارها العابرين إلى مدارسهم.

الباشورة كان أيضاً مساحة اجتماعية، حيث لا تتوقف الحياة عند البيع والشراء، بل تتسع للحكايات والأخبار. البائعون رواة يعرفون تاريخ كل قطعة. هذا المعطف جاء من أمستردام، وتلك السترة لطالب أنهى دراسته في أوروبا. السوق كان مقصداً لذوي الدخل المحدود، وللسيدات العاملات ولمن يبحث عن ذكرى من زمن مضى. الكل على قدم المساواة أمام ذاكرة مشتركة.

في نهاية المطاف، لم يكن سوق الباشورة مجرد مكان لبيع الملابس، بل أشبه بمتحف غير رسمي وفضاء يعيد ترميم الحياة والكرامة. فالملابس المستعملة فيه لم تكن مجرد سلع، بل كانت ستاراً يخفي وراءه عالماً من الذكريات، وأملاً يتجدد، وتشبثاً بالحياة في مدينة تتعرض لمحاولات مستمرة لمحو هويتها.

الباشورة لم يقدم أقمشة فقط، بل باع لحظات من الأمل، وفتح نوافذ في الذاكرة، وشارك في خياطة نسيج يومي نابض بالحياة. لكن بعد سنوات قليلة من حرب عام 1967، خفت صوته، وتراجع نبضه ولم يعد كما كان.