• 20 كانون الثاني 2021
  • مقابلة خاصة

 

بقلم : كايد هاشم *

 

يعد الدكتور عيسى الناعوري (1918-1985)، الذي مرت الذكرى المئوية لميلاده قبل عامين، أحد أبرز روّاد الأدب الأردني المعاصر، وكان من أغزرهم إنتاجًا ومشاركةً في النشاط الثقافي وألوان مختلفة من الكتابة والإبداع، عدا مشاركته في أشكالٍ أخرى من الفعل الثقافيّ. ومن ذلك إصداره أوّل مجلّة أدبيّة في الأردن هي مجلّة "القلم الجديد" (1952-1953)، التي كان لها دورها في نشر نتاجات وبواكير لأدباء من الأردن وفلسطين والعالم العربي والمهجر، وأسهمت رغم قِصر عمرها في التعريف بنشأة الأدب الأردني وتطوره في الأوساط الثقافية التي وصلتها مشرقاً ومغرباً، وكذلك في بعض أوساط المستشرقين .

ومنذ بداياته في النشر الأدبيّ خلال النصف الثاني من ثلاثينيات القرن الماضي وحتى وفاته، ظلَّ الناعوري متصل الإنتاج على وتيرة متصاعدة من الدأب والمتابعة والوفرة في الكتابة فبلغت مؤلفاته ومترجماته حوالي الستين كتاباً ودراسة تتنوع ما بين القصة والرواية والشعر والترجمة والنقد والدراسات الأدبية والفكرية والتاريخ والتراجم والسِّير والمذكرات وأدب الناشئة والأطفال، وبعضها مكتوب مباشرة بالإيطالية أو الإنكليزية، وهناك أيضاً ما ترجمه إلى هاتين اللغتين ونُشر في الغرب عن الأدب في الأردن وفلسطين وبعض آثار رواده ولا سيما مصطفى وهبي التل وشعراء المقاومة كـ فدوى طوقان ومحمود درويش وسميح القاسم ومعين بسيسو . وكان خلال السنوات الأولى من الستينيات قد بدأ يجمع ما بين التأليف والترجمة، فتوسعت صِلاته الأدبية في معظم البلدان العربية ومنها لبنان وسورية ومصر وتونس وليبيا والمغرب والمهاجر العربية في الأميركيتين الشمالية والجنوبية، فضلاً عن صلاته وصداقاته مع العديد من الأدباء والمستشرقين والمستعربين والناشرين في إيطاليا التي منحته جامعة باليرمو الصقلية فيها درجة الدكتوراة الفخرية سنة 1976، وكذلك في إسبانيا والمجر وبلغاريا وغيرها من البلدان والأوساط الثقافية الغربية . كما منحته الأكاديمية العالمية للفنون والثقافة في تايبي بتايوان دكتوراة فخرية أخرى سنة 1981 .

وتحمل السيرة الذاتية للراحل الناعوري الكثير من سمات شخصيته الأدبية والثقافية والإنسانية، وقد سجل هذه السيرة في عدد من مؤلفاته المنشورة :

فهنالك أولاً (الشريط الأسود)، الذي نشرته دار المعارف بمصر سنة 1973، والذي كان كتبه سنة 1954، وصور فيه بأسلوب قصصيّ المرحلة الأولى من حياته حتى سن الثامنة عشرة أو العشرين. وأراد أن يكون هذا الكتاب كتاب "اعترافات" عن سنوات من الكفاح في عاشها طفولةً معذّبة وصراعًا مع البؤس والفقر والحرمان والمرارة النفسية في مطلع شبابه، ومع وطأة "تقاليد البيئة وأحكامها الجائرة" كما يقول. ولعله بهذه الاعترافات أراد أن يسجِّل نوعًا من الانتصار على تلك السنوات المتشحة بالسواد. فهو يقول في ختام الكتاب: " كافحت طويلاً، وبرغم المرارات الكثيرة سرتُ على درب الحرية والكرامة ... نجحتُ في الانتصار على الشقاء، وعلى الوحدة، وعلى البُعد عن دنيا القلم والكتاب".

بعد ذلك بسنوات طويلة، أي في عام 1980 وقبل وفاته بنحو خمس سنوات، كتب الناعوري مذكّراته وسمّاها "ذكريات حياتي"- وقد شاركت أ.د. صلاح جرار في تحقيقها ونشرتها وزارة الثقافة 2012 - لكن في هذه المرّة كتب سيرته بطريقة السرد المباشر للوقائع أو بالطريقة التسجيلية، وبذات النفَس الصادق الجرىء الذي كتب فيه اعترافاته الأولى. لم يخشَ سوى أن يقول بعض الحقيقة وينسى بعضها الآخر بسبب خيانة الذاكرة، فتخرج الحقيقة ناقصة لطول الفترة التي يتحدث عنها وتعدُّد الأحداث وتنوعها، بل يصرح في مقدمة الكتاب بأنه لا يخشى قول الحقيقة، وليس في حياته ما يستحقّ أن يخفيه عن الناس ... لأنه يريد أن يكتب حياة إنسان، بكلّ مزاياها وسماتها. فهي حياة "فيها من حياة كل إنسان مشابه وسِمات: من ولادة، وطفولة، وشباب، وكهولة، ومن حب وحقد، ومن فرح وحزن، ومن مرض ومتاعب ... إلخ".

وعلى هذا يقسِّم الذكريات إلى أقسامٍ ثلاثة، فيتحدث في الأول حديثًا عامًا عن صباه ودراسته وعمله في فلسطين، بعد انتقاله إليها من قريته ناعور، وبداياته في عالم الثقافة والأدب، والأحداث التي شهدها إبان نكبة فلسطين 1948، ومن ثم عودته مع اللاجئين إلى الأردن.

وفي القسم الثاني يتحدث عن بواكير تجاربه في الكتابة ونظم الشعر وممارسة النقد الأدبي ومصادر ثقافته، ثم عن الأحداث التي أثرت في أدبه، وأهمها المأساة الفلسطينية، وبعثته الأدبية إلى إيطاليا 1960/1961، ورحلاته المتعددة إلى إيطاليا بصورة خاصة، والعديد من البلدان الغربية؛ فضلاً عن الأقطار العربية، كذلك تأثره بالأدب المهجريّ وعَلاقته بأدباء المهجر، والتأليف عنهم وعن أدبهم.

وينتقل بعد ذلك للحديث عن بعض تجاربه في التأليف والترجمة، مثل رواية "بيت وراء الحدود" من أجواء النكبة الفلسطينية الأولى 1948، وكتاب "أدباء من الشرق والغرب"، و"أقاصيص أردنية"، ورواية "جراح جديدة" من أجواء النكبة الفلسطينية الثانية 1967، وترجمته للملحمة المجرية الشعرية "مأساة الإنسان" لإيمري موداتش.

ويخصص القسم الثالث والأخير من الذكريات للحديث عن قصائد من شعره كان لها مناسبات مهمّة في حياته.

وكما يلاحظ القارىء، فإن الفرق بين (الشريط الأسود) و(ذكريات حياتي) هو كما وصف أحد النقاد، ذات مرة، الفرق بين كتاب (الأيام) لطه حسين، وكتاب أحمد أمين (حياتي). فالأوّل صورة وأسلوب، والثاني سرد ووقائع. والأهم أن عيسى الناعوري في سيرته الذاتية، سواء في الكتاب الأوّل أو في الكتاب الثاني كان متجردًا للحقيقة: أراد أن يقول كلّ شيء وبقدر ما تمدّه ذاكرته من صور الأحداث وانطباعاتها وظلالها وتأثيراتها. ولم يستخدم الأسلوب القصصي، خاصة في (الشريط الأسود) للتخفّي وراء شخصية الراوي كما فعل المازني مثلاً في كتاب (إبراهيم الكاتب)، أو  غيره من الكتاب في الكثير من الأعمال القصصية.

لكن من المهم أن أُشير هنا إلى أن الناعوري في مذكراته لا ينكر وبصريح العبارة أنَّ في رواياته وقصصه أشياء كثيرة من حياته (مثلاً قصص من قريته ناعور في "أقاصيص أردنية").

وتعدّ مذكرات الناعوري عن رحلاته أجزاء من سيرته الذاتية أيضاً، ولا سيما رحلته الأولى إلى إيطاليا، المنشورة سنة 2004 بتحرير وتقديم الأستاذ تيسير النجار، ومثلها رحلاته إلى الأندلس وإسبانيا 1967 و 1974، ورحلته إلى بلغاريا سنة 1973، وما سجَّله عن رحلاته إلى بلدان الشرق والغرب في كتبٍ له ما تزال مخطوطة، خصوصًا إلى تونس، وليبيا، والمغرب، والسعودية، وأمريكا عام 1978.

كان الناعوري يردد، كما في مذكِّراته، "أنا جزءٌ من أدبي وأدبي جزءٌ مني، لا أنفصلُ عن أدبي ولا أدبي ينفصل عنّي". لهذا، تجد هذه المذكرات ذات نزعة أدبية شديدة، والتركيز فيها على عَلاقاته بالأدباء والكتّاب عربًا وأجانب، وجهوده الأدبيّة المتمثلة بآثاره العديدة.

*كاتب وباحث