• 5 حزيران 2021
  • مقابلة خاصة

 

 خص الكاتب والروائي " إبراهيم نصر الله " مقالة  في اطار استطلاع الآراء التي تقوم بها شبكة " أخبار البلد"  حول النكسة التي حلت بالقدس  وفلسطين، اليكم إياها :

طفلا عرفتُ القدس؛ مرَّتين في العام، حين كنتُ، وأبي، نزورُ جدي في "مخيم عايدة"، في "بيت لحم"، لم يتركني أبي خلفه، أيامًا، لأعرف أكثر، كانت مشقةُ الذَّهاب من مخيم الوحدات، هنا في عمّان، إلى "عايدة"، هناك، شاقةً، ومكلفةً أيضا.

بين مخيمين تأرجحتُ، وثلاثِ مدن: عمّان، القدس، وبيت لحم.

عرفتُ عمّان، مدينةَ حياتي، كما لم أعرف مدينة أخرى. لكنّ القدسَ هي مدينتي، فضمْن قضائها تقعُ قريتي، لكنني لم أكن أعرفُها كما يليق بها أن تُعْرف. حتى قريتي، لم أحظ بلقائها؛ لأنها باتت منطقةً عسكرية يُحظَر الوصول إليها.

لكن القرية التي لم أرها بعيني، رأيتُها بأعين سواي.

عمّي أحمد، بقي في مخيم عايدة عام النكسة، 1967. خرج جدي ومعه أولاده، ولم يخرج عمّي أحمد، ذلك الفتى الصغير، بقي هناك، متشبّثا بمخيم أقربَ إلى البحر، مع أنه لا يستطيع رؤية البحر وهو فيه، في زمن مضى أهلُه لمخيم لا يُطلّ حتى على النهر.

وقال لي جدي بعد زمن طويل: حمدا لله أننا لاجئون خلف النهر ولسنا خلف البحر.

في عام 1967 كان أبي يُتابع الأخبار، ولا يعرف شيئا، وكنت في الثالثة عشرة من عمري، أكبرَ أبنائه، حين قال لي: ستبحث في مدرسة، وأبحث في مدرسة؛ من مدارس وكالة الغوث في مخيم الوحدات.

رحلة البحث هذه، كتبتُها في رواية "طيور الحذر".

لقد فكّر أبي مثلما فكّر جدّي تمامًا:

فكَّر الجدُّ: ابنيَ الكبيرُ في مخيم الوحدات. أنأكون في واحدةٍ من مدارس ذلك المخيم، يعنى أن أجدَه.

لكننا وجدناه نحن، أبي وجدَه، لأن أبي يعرف.

وبقيتُ مُستغربا، ولم أزل، لماذا لم يأتِ جدّي مباشرة إلى بيتنا الصغير، فهو يعرفه؟ لماذا ذهب إلى المدرسة؟ هل كان خجلا من ابنه؟ وهو يسير منكسرًا على آثار خطوات نكبة أخرى؟ أو أنه كانخائفًا من لقاء نكبتين في بيت واحد؟!

وذهب أبي إلى المدرسة، وأرسلني إلى أخرى؛ لم ينتظر أباه أن يطرق البابَ.. هل كان يعرف أنه لن يفعل؟ ما الذي يعرفه أبي أكثر من سواه، من علَّمه أن يعرف أكثر من سواه؟

أبي علّمتْه النكبة.

لكنني كنت أعرف أشياء أكثر منه.

في عالم المنافي يتعلَّم الأبناءُ بسرعة تفوق سرعةَ تعلُّم آبائهم.

فهناك الأب الذي يبدأ عملُه قبل شروق الشمس إلى ما بعد غروبها، وهناك الأولاد يعيشون كل ما لا يراه الأب خارج أسوار مكان عمله.

عندما عَلِمْنا أن عمّي أحمد لم يخرج، عمّي الصغير الذي يبدو أنه أصغر من أن نناديه (عمّي)، عندما علِمنا أنه بقي في مخيم عايدة، خِفنا عليه، وبقينا نخاف عليه.

- لماذا لم يخرج عمّي أحمد معكم؟!   

سؤال، يبدو بسيطا، لكن أحدًا لم يسأله. كلنا اكتشفنا أنه سؤال غبيٌّ، في غاية الغباء.

هل سألوا عمّي أحمد بعد ذلك، ومتى، لا أعرف. كل ما عرفته هو ما سمعته، حين كانت العائلة تتحلّق حول المذياع لسماع رسائلها المتتالية لذلك الابن، في ذلك البرنامج الإذاعيِّ الذي يُفتتحُ بأغنية فيروز:

وسلامي لكم يا أهل الأرض المحتلة

يا مُنزرعين بمنازلكم

قلبي معكم.. وسلامي لكم.

وكان جدي يقول لي: حمدا لله أننا لاجئون خلف النهر، حمدا لله، أكثر، أن هناك واحدًا منا لم يزل أقربَ للبحر.

لا أعرف الآن متى وصلتْ رسالتُه الأولى، عمّي، لكنني أعرف أنها تأخَّرتْ كثيرا، قبل أن يأتي إلى عمان زائرا. 

كان جدّي قد رحل.

في تلك الزيارة، لعل هناكَ مَن سألَهُ: لماذا لم تخرج مع العائلة؟

أتخيّلُه دائما صامتا، لا يجيب، فإجابةٌ عن سؤال غبيٍّ، قد تكون أكثر غباء من السؤال ذاته. 

وعاد إلى مخيم عايدة...

لكننا بقينا نخاف عليه..

أكثرَ وعيًا بعد ذلك أصبحنا، كان أولُ شيء علَّمنا إياه الوعي، هو الحسد. كلّما عرفنا مخيَّمنا حسدنا عمّي أحمد على مخيّمِهِ أكثر، مع أنه مخيّم أيضًا، لكنه مخيم في الوطن. عند ذلك لم يعد عمّي أحمد ذلك الشخص الذي عرفناه، أصبح الأفضل بالنسبة لنا جميعا.