• 6 حزيران 2021
  • مقابلة خاصة

  وتستمر شبكة " أخبار البلد" بنشر شهادات حية او انطباعات شخصية لمثقفين وكتب وصناع راي حول ما جرى في النكسة التي كانت اثارها عميقة في  الجسد العربي المثخن بالجراح .

 وهذا ما كتبه الكاتب والاديب "كايد هاشم " خصيصا لشبكة " أخبار البلد " : 


لم تسعف الفتى الصغير مداركه في فهم لماذا زغردت بعض النساء من على شرفات المنازل وأسطحتها ولوحن بالأعلام لما صدحت فرقة الموسيقى العسكرية مجلجلةً بنغمات شجيّة في شارع الخيام الهادىء بجبل اللويبدة، وعازفوها يسيرون في جنازة يتوسطها نعش محمول على أكتاف العسكر بقاماتهم الرمحية، ووجوههم التي لوحتها الشمس، ونظراتهم الصقرية، والنعش مغطى بالعلم الأردني والعسكر يحفُون به ويسيرون بمشية منتظمة بطيئة لها وقع مهيب وهم يضربون الأرض بأقدامهم!؟

ولعل الفتى لمح أحدهم يحتضن صورة كبيرة داخل برواز لشاب بملابس عسكرية أنيقة لطياري سلاح الجو الملكي الأردني يحيط بها إكليل من الورد ... كانت الجنازة جنازة الشهيد الطيار موفق بدر السلطي الذي استشهد في معركة السموع في ١٤ تشرين الثاني ١٩٦٦ وهو يواجه الطائرات الإسرائيلية المعادية ببسالة مشهودة ... والذي انتقم له رفيقه الشهيد الطيار فراس العجلوني في أثناء معارك حرب حزيران (يونيو) ١٩٦٧.


 ظل اسما الشهيدين وغيرهما من الطيارين الأردنيين الشجعان والشهداء الأبرار في محفوظنا، فنحن جيل تعلم الكلام مع أسماء الشهداء وهؤلاء الصناديد الأبطال، كما بقيت أطياف مشهد تشييع الشهيد تلوح في ذاكرة الفتى والأسئلة في ذهنه تتكاثر حول كيف يأتي ما ظنه عرساً مع الحزن، ولماذا كان أهل الحي كبارهم وصغارهم، وبلهجاتهم المختلفة يتبادلون عبارات المواساة وبعضهم يذرفون الدموع ويدارون الحزن في تلك اللحظات، وليس فقط مَن يفعلون ذلك جيرانهم أهل الشهيد ... ثم ما معنى كلمة شهيد ؟ ... لم يقنعه ما سمعه من الإجابات عن سؤاله، لكن أعجبته إجابة والدة صديقه "معروف" التي قالت بلهجتها الخليلية :  "الشهيد عند ربُه ما حدا قدّه " وأنهمرت دموعها كزخ المطر وهي تواسي جارتها السلطية، لكنها لم تنبس بكلمة من تلك الجملة التي تشبه القول المأثور !


لم يمضِ على ذلك اليوم غير العادي سوى أشهر قليلة، حتى كانت بيوت الحيّ قد أصبح زجاج نوافذها مصبوغاً بالأزرق الغامق (النيلي) لاخفاء أنوارها عن الطائرات الإسرائيلية المُغيرة ... والناس لا تفارق أجهزة الراديو، ليلاً نهاراً، إلى أن جاء والدي، رحمة الله عليه، في ساعة من ساعات النهار إلى البيت ولم تكن ساعة عودته المعتادة من عمله، بدت ملامحه متعبة حزينة وعليها مسحة من القلق ... قالها بغصُة : "راحت القدس"  !.. كأنه فقد أمه وكانت القدس أمه بكل معنى، فقد رأت عيناه النور فيها وتحت سمائها اشتدّ عوده ... أغلق الراديو الذي كان يذيع البيانات، وجلس واجماً صامتاً !
في كل بيتْ، في الحيْ كان هناك مَن يقول ما يشبه قول أبي، إلا جدّي الذي كان كبرياء الفارس يطبع شخصيته، وهو الخيّال القديم الذي أبى أن يصدق سقوط القدس مرة أخرى عام ١٩٦٧ وأبى أن يعترف بالهزيمة، كابر وعاند ... وضرب عصاه بالأرض وهو يردد :" بسيطة يابا كَبَا الحصان (أي عَثَر) وبكرة بنرجع على فلسطين "!
كان يقينه كأنه حكم التاريخ وترك لأحفاده أن يوقنوا ويعلموا أولادهم كيف يحفظون يقينهم !