• 18 كانون أول 2021
  • مقابلة خاصة

 

 اسطنبول - أخبار البلد - كتب الصديق الصحفي والكاتب "محمد تركي ربيعو" مقالة في صحيفة "القدس العربي" تناول فيها  ظاهرة  تفشي دور النشر العربية وتمركزها في حي الفاتح  بمدينة اسطنبول ، حيث يقوم الصديق محمد تركي ربيعو بمحاولة توثيق تلك الحقبة من الوجود العربي المميز في ذلك الحي  على شكل المطاعم وحوانيت ودور النشر ، بعد أن اتخذ الصحفي "ربيعو" من الحي مقرا له بعد خروجه من سوريا خلال السنوات الماضية.

 مقالة الصديق الكاتب "محمد تركي ربيعو" ترسم صورة واقعية لواقع الحال في الفاتح والتحولات التي يعيشها . 

 ويسعدنا في شبكة " أخبار البلد" ان نعيد نشر المقالة كاملة شاكرين للصديق الصحفي "محمد تركي ربيعو" هذا الجهد المتميز الذي يوثق لمرحلة هامة في  تاريخ المدن والتحولات التي تشهدها تركيا بهذا الوجود العربي الكبير فيها.

" من يسير في شوارع حي الفاتح في مدينة إسطنبول التركية، لا بد أن تستوقفه ظاهرة نمو المحال السورية في هذا الحي، والرائحة والكلام السوري، ومحلات الحلو والشاورما والفلافل. وفي موازاة استمرار النمو هذا، نلاحظ أيضا تزايدا آخر في عدد دور النشر السورية. فبعد الاقتصار على مكتبة عربية واحدة في عام 2017، أخذنا نشهد ظهور اقتصاد آخر للنشر السوري والعربي في المدينة، ما أتاح الفرصة لظهور نصوص جديدة؛ ففي ظل هذا الاقتصاد، كان الناشر السوري في تركيا يتيح فرص النشر لكل من يرغب في الكتابة عن حياة السوريين بعد عام 2011 أو عن أي سياقات أخرى، طالما أن الكاتب يتحمل جزءا من تكاليف طباعة الكتب، ولذلك لم تقم هذه المشاريع منذ البداية، إلا ما ندر، على وضع معايير معينة لطبيعة النصوص المقدمة إليها، وإنما كان الطاغي التعامل مع النشر بوصفه عملا يحقق مكاسب مادية، ما أتاح الفرصة لعشرات الأسماء الشابة لنشر أول تجاربها الروائية، حتى أصبح يمكن القول إن هناك ظاهرة كتابية جديدة في عالم النشر السوري في إسطنبول، تتمثل بولادة عشرات الروائيين الشبان، الذين استفادوا من مرونة سوق النشر السورية في هذه المدينة، ليقدموا على نشر أول نصوصهم، دون أن يحتاجوا مثلا إلى شهادة تقدير من أحد الروائيين كما جرت عليه العادة في بعض دور النشر اللبنانية.

وعلى الرغم من الملاحظات التي قد تُسجّلُ على هذه النصوص، مثل أنها لا تحمل مقومات الرواية (إن وجدت شروط كهذه) إلا أننا نعثر في هذه النصوص على صور غنية عن المجتمع السوري في الداخل، أو بلدان اللجوء، كما نعثر على شكل آخر من كتابة الرواية أو اليوميات؛ إذ قد يغيب أحيانا البعد الأدبي أو التخييلي في هذه النصوص، لصالح أسلوب كتابي يمزج بين الذاكرة والمشاهدات اليومية، وبعض التقنيات الروائية البسيطة، ما جعلها أحيانا تبدو وكأنها مادة أكثر قربا من تفاصيل ما جرى في سوريا بعد 2011، خاصة أن هذه النصوص أو أصحابها بالأحرى، غالباً ما حاولوا نقل هوامشهم وانطباعاتهم التي تشكلت في السنوات الأخيرة، لكن لم تتح لهم فرصة نقل هذه التجربة من خلال نصوص وأبحاث ميدانية، في حين كان عالم الرواية أو اليوميات يتيح لهم التعبير عنها دون أن يستأذنوا أحداً، ولذلك يبدو اليوم عالم الرواية السورية بالأخص، بمثابة الساحة البديلة لقسم كبير من الكتاب السوريين، الذين لجؤوا إليها للحديث عن تجاربهم وسيرهم القصيرة، ومشاهداتهم وقراءاتهم واهتماماتهم وسير عائلاتهم.

وقد تمثل هذه النصوص أيضا دراسة لأنماط الكتابة الأخرى في سوريا بعد الحرب عموماً. ففي السنوات الأخيرة انتشرت عشرات المراكز السورية في تركيا، إلا أن أدواتها وأجنداتها في الكتابة بقيت في الغالب تقليدية، وكثيراً ما تركزت في الجانب السياسي أو العسكري الميداني، بينما ظهرت هذه النصوص بوصفها تنقل صورا أخرى عن الناس، أو بالأحرى تساهم في تحويل الهامش إلى متن، وفق تعبير الأنثروبولوجي اللبناني نادر سراج.

 

عالم نصي مجنون

لا يمكن، في هذه الروايات أو النصوص، الفصل بسهولة بين ما هو ذاتي وما هو تخييلي، أو بين تدوين الهوامش والسرد العام. فكل هذه الأشكال من الكتابة تراها أحيانا في نص واحد، بل أن هناك من أصحاب هذه الأعمال الروائية، أو اليومية بالأحرى، يعترفون بأنهم حلموا في يوم ما أن يكونوا روائيين، ولم تتح لهم فرص كافية للنضوج وخلق عالم أبطالهم، وهي مادة تأتي في الغالب من الواقع، بالإضافة إلى تراكم المعارف في حقول أخرى، ولذلك اندفعوا إلى كتابة سيرهم الذاتية، أو تجاربهم في قالب أو نفس روائي، لكن سواء حظيت هذه النصوص الروائية أو اليومية على اعتراف من شيوخ الكار ونقاده أو لا، فهي تبقى نصوصا تحمل مادة ثرية عن شكل المدن السورية ووجوه أهلها بعد عام 2011، التي لا يمكن العثور عليها اليوم في نصوص روائيين سوريين كبار، اضطروا في السنوات الأخيرة إلى مغادرة البلاد، ما جعل بعضهم يعود لعالم السبعينيات للسؤال عن أسباب ما جرى، بينما كان هؤلاء الشباب يلتقطون صوراً غنية عما يحدث الآن.

نصوص لم تكتمل..

مع أهمية هذه النصوص للتعرف على الأفكار والواقع السوري الجديد، مع ذلك فإن ما يسجل أحيانا عليها، أنها تبدو نصوصا غير مكتملة، فهي إن استطاعت التقاط صور مفعمة بالدلالات، حول التحولات الجارية في حياة السوريين، لم تتمكن من التجول بنا أكثر في خلفية هذه الصور، وإنما نراها تلتقط هذه الصور، وتجري بسرعة نحو صورة أخرى، وصحيح أن الأعمال الأدبية لا تقول شيئا واحدا، بل أشياء كثيرة، لكن كما يشير الروائي السوري فواز حداد في إحدى مقالاته المهمة «عدم الشفاء من الرواية» إلى أن على الروائي ألا ينسى أن شخصياته التي تعرف عليها لها عقل وسيرة حياة، وبمجرد أن يمسك بشخصية ما لا بد من الركض وراءها والدخول في قلبها، بينما نلاحظ في عدد من هذه النصوص أنها كانت تلهث وراء التقاط الصور هنا وهناك، وكأنها تخشى ضياعها في هول ما تعيشه المدن السورية من أحداث، دون أن تغوص أكثر في سيرة الصور التي التقطتها وكيف تشكلت أو بدأت تتشكل بالأحرى.

ومن بين النصوص التي تحمل رائحة الملاحظات السابقة، النص الذي كتبه الكاتب الشاب محمد جلال بعنوان «اليوم التالي» موزاييك للنشر، وهو نص كما يقول مؤلفه عبارة عن يوميات تشمل فترة ما بين 2014 ـ 2019، ويعد استكمالا لنصه الأول «هذه ثورتي» الذي شمل السنوات الأولى من الثورة السورية. وعلى الرغم من أن مؤلفه يضع نصه ضمن نصوص اليوميات، وليس الروايات، لكنه يعترف في مقدمة نصه أن رغبته في البداية كانت تتمثل في كتابة أول عمل روائي له، لكن الأحداث الكبيرة التي جرت خلال السنين لم تترك له مجالاً، ولذلك آثر هذا الشاب، الذي نصحته صديقته وهو طالب جامعي بقراءة تشيخوف، ألا يضع نصه هذا تحت قبة الأعمال الروائية، مع ذلك تبدو الخطوط السردية التي يعتمدها وكأن النص كتب في البداية كرواية، لكن المؤلف تراجع لاحقا، وقرر وضعه في باب اليوميات. ويمكن القول إن ما ينطبق على عالم الرواية من ملاحظات قد ينطبق أحيانا على كتابة اليوميات، وبالأخص على مستوى فهم سيرة الأماكن والشخصيات، التي رصدتها، فهو وإن حاول التقاط مشاهد مهمة من الهامش السوري اليومي وتعريفنا بها، لكنه أخفق أحيانا في السير وراءها، إذ تراه يندفع مباشرة نحو التقاط مشهد آخر، وهكذا، كما أنه ظل مولعاً بالسرد ورواية الصورة العامة للأحداث، أحياناً على حساب الإخلاص ليومياته وقصص أهلها.

سيبدأ الشاب في تدوين الدفتر الثاني من يومياته، بعدما قرر الهرب من قريته في ريف حلب إلى تركيا، وهنا اضطر إلى عبور الحدود بشكل غير نظامي، ليصل إلى مدينة قونيا التركية، فالكثير من الأصدقاء والأقارب كانوا قد سبقوه إلى هذه المدينة، التي يعيش فيها اليوم الآلاف من السوريين، الذين ظلوا مهمشين على صعيد رصد حياتهم مقارنة بالسوريين في إسطنبول وعنتاب. أول ما سيلفت نظره في المدينة أن سماءها تمطر شاياً، في إشارة لولع الأتراك بشرب الشاي، كما سيعرف من خلال أحد الأصدقاء، أن للمدينة طابعا مقدسا لوجود مقام الصوفي الكبير جلال الدين الرومي، ولذلك سيقرر تغيير كنيته إلى جلال، وسيصبح اسمه «محمد جلال» وكأننا في رواية، يقرر بطلها التماهي والاندماج في المكان الجديد والهرب من الماضي، من خلال حمل لقب أحد أبطالها أو شوارعها، بيد أن هذا الشاب سيظل يعيش كما يذكر مع ذاكرة مدينة حلب وشوارعها وأصدقائه، ولعله كان قد قرر مع بداية حمل هذا اللقب القطيعة مع الماضي، ليعود أثناء تذكر يومياته ويعدل من روايته للأحداث، في كل الأحوال، لم يمنعه ذلك من إبداء انبهاره بعالم المواصلات العامة التركية ومدى التزامها بالمواعيد، كما سيدون واقع العمل في معامل تعبئة الطحين والبرغل، وسيذكر لنا هنا لقب «البترون» الذي يطلق على أي معلم أو صاحب ورشة في تركيا، لكن جلال لا يقف كثيرا عند هذه الكلمة، وهي كلمة ظل كبار السن في سوريا يرددونها أحيانا، كما أنها بقيت مستخدمة في المدن السورية القريبة من تركيا، إلا أنها لم تكن تحمل المعاني التركية ذاتها، التي تعني صاحب العمل، بل غالبا ما كانت توجه للنساء سيئات السمعة، أو ممن يعملن في إدارة بيوت الدعارة، ما قد يطرح تساؤلا، عن سبب هذا الانزياح في سوريا وصبغ المفردة بمدلولات جنسية؟

لكن لنكمل مع الشاب التي سيروي تفاصيل ومشاهد غاية في الدقة عن حياة العمال السوريين، وحتى الأتراك في العمل، الذي يبدأ منذ الساعة التاسعة صباحا لينتهي في الثامنة مساء، وخلالها لا يتاح لك سوى التدخين لعشر دقائق، وأخذ استراحة غداء، وفي الغالب ما يكون طبق الغداء صحنا من الأرز مع الفاصولياء، وهو الصحن ذاته الذي كان كمال أتاتورك يوزعه على جنود فرقته خلال معركة جناق قلعة، ولولا صحن الفاصولياء هذا لما انتصروا في معركتهم، ولذلك يبدو العمل في المعامل التركية، كما يصفه لنا هذا الشاب أقرب ما يكون للمعركة، أو ساحة لإبادة العمر والوقت والتي لا تعرف سوى فترات هدوء صغيرة، قبل أن يعود المحاربون لاستكمال مهامهم، وفي ظل هذه الظروف سيبحث الشاب عن عالم آخر للهروب وتذكر الزمن الجميل، وهو ما سيراه من خلال متابعته لكأس العالم في عام 2014، فرغم أن السوريين كانوا قد هربوا من الموت، بينما كان السياسيون المعارضون في الخارج يدعون فيها للمقاومة والصمود، كان سوريو قونيا يتابعون مباريات هذا المونديال، في ظل غرابة لا تفارق وجوه الأتراك من هذا المشهد، وكأن كرة القدم قد غدت الوقت المستقطع التي يهرب إليه السوريون بعيدا عن أخبار القتل والموت والجوع اليومية، وهذه العلاقة بكرة القدم بوصفها العالم البديل ستبقى حاضرة مع كاتب اليوميات في أشد لحظات المعارك بعد عودته إلى الداخل السوري مجددا.

في قونيا، وعلى الرغم من كل المحبة والمساعدة التي أبداها الأتراك في البداية، لكن عالم الذاكرة والعمل الشاق، سيدفعان به للعودة إلى قريته في ريف حلب، وهنا ستبدأ فصول أخرى من اليوميات، وأهمها ربما إشاراته العديدة لموضوع ظهور المجالس المحلية والمؤسسات الإنسانية، التي أخذت تقدم مساعدات للاجئين وقصص الفساد التي ارتبطت بها، بعد ذلك سيضطر الشاب إلى استئجار منزل في إعزاز، التي كانت في نهاية 2015 بلدة صغيرة، وسيصف في يومياته موقع المنزل الذي يقع على أطراف البلدة، وعمله في إحدى المؤسسات الأوروبية التي أخذت تدر له دخلا جيدا. مع ذلك، ما يسجل على يومياته في هذه الفترة محاولته أحيانا قطعها للذهاب إلى رسم صورة عامة عن المشهد السوري، خلال عام 2016 ـ 2019، ما أفقدنا أحيانا متابعة المشهد اليومي، فبلدة إعزاز وجراء تطور الأحداث ومعارك حلب 2016 ولاحقا دخول الجيش التركي، كانت شيئا فشيئا تتحول إلى مدينة جديدة، مع ذلك لن يتمكن الشاب، رغم براعته في التقاط الصور من الصبر قليلا، ومحاولة تتبع حال الحارة التي كان يعيش فيها، وكيف تغيرت خلال هذه الفترة، أو أحد الأسواق، وربما لو حاول تغيير استراتيجية تدوين يوميات إعزاز قليلا وحصرها في مكان واحد، لكان تحول نصه هذا إلى عمل روائي بامتياز، إن لم نقل إنه كان سيكون واحدا من المغامرات الروائية الشيقة في عالم المدن السورية المتشكلة حديثا بعد عام 2011. مع ذلك لا يمكن نفي أنه استطاع من خلال بعض الصور التي التقطها، وعلى مدار خمس سنوات من أن يرسم لنا صورة جديدة عن تطور المكان وواقع الناس في هذه البلدة، التي غدت مدينة كبيرة. ومن القصص الغريبة التي يرويها هنا، حديثه عن وجود لاجئين عراقيين في مدينة إعزاز! وأغلبيتهم من التركمان ممن هربوا من معارك قوات التحالف مع «داعش» ولم يجدوا سوى إعزاز ملجأ للهروب والاستقرار بعد سيطرة الأتراك عليها، ولتستخدم فنادق البلدة، وهي أماكن شبيهة بخانات القرن التاسع عشر (فراش بسيط ووسائد وغطاء) أسماء تحمل رائحة الوجود العراقي مثل فنادق بغداد وكركوك والفرات، ما يعني أيضا ولادة مئات القصص والسير الجديدة التي كانت تجري على الحدود السورية العراقية التركية، دون أن تحظ ليومنا هذا برصد كاف في العالم الصحافي السوري. بينما تمكن محمد جلال في نصه من التقاط هذه التطورات، ومن القول إن عالم مدن الحدود أصبح أيضا مكانا مناسبا لولادة نصوص روائية أو سير ذاتية ويوميات تنقل واقع ما جرى وقد يجري في المنطقة في السنوات المقبلة، فالعالم الروائي في المدن السورية الكبرى يبدو اليوم وكأنه قد استنفد خياله وقصصه، ولذلك تظهر مجتمعات الحدود اليوم ساحة جديدة وغنية بالقصص والحكايا والصور، التي قد ترسم صورة أدق عما حدث في المنطقة وإلى أين تسير، وقد يكون كاتب هذه اليوميات محمد جلال من بين أهم تلك الأسماء التي سترصد ذلك مستقبلا.