• 21 كانون أول 2021
  • مقابلة خاصة

 

القدس - أخبار البلد -  قدم الاديب والروائي المعروف محمود شقير شهادة  غنية جدا في الادب والراوية والقصة وذلك اثناء مشاركته في ملتقى تحولات الراوية الفلسطينية الذي عقده بيت الرواية في تونس الشهر الماضي .

 اديبنا الكبير العاشق للقدس واطرافها خص شبكة أخبار البلد المقدسية نشر هذه الشهادة كاملة، لتكون وثيقة للاجيال القادمة وفرصة للتعرف اكثرعلى الكاتب والاديب محمود شقير واليكم الشهادة كما هي : 

منذ ابتدأت كتابة القصة في العام 1962 لم يغادرني التوقُ إلى كتابة الرواية.  ويبدو أن هذا التوقَ تجسّد في كتابة سبع روايات للفتيات والفتيان وثلاث روايات للكبار؛ كما انعكس على أسلوب كتابتي للقصة القصيرة جدًّا، بحيث أنجزتُ كتبًا قصصية فيها سياقات روائيّة استوحيتُ مضامينَها من المجتمع الذي أعيش فيه.

أعيش في مجتمع فلسطيني مبتلى بالاحتلال الإسرائيلي، الذي ما زال جاثمًا على صدور الناس منذ سنوات طويلة، وما زال في الوقت ذاته يجمّد فرصَ التطور الطبيعي لهذا المجتمع، بحيث راح الناس هنا يعيدون للعائلة الممتدة وللعشيرة هيمنتهُما على المنتمين لهما من رجال ونساء، للاحتماء بهما من عسف الاحتلال ومن انعدام الأمن والأمان، ما يعني تعزيزَ سطوة المحافظة، وحضورَ الأعراف والتقاليد على نحو مبالغ فيه، وتقييدَ حرّيّة النساء، وشخصنةَ الأمور على النحو الذي يجعل حركة الروائي في هذا المجتمع محكومةً باعتبارات كثيرة وبمحاذير.

مع ذلك، لم أعدم في ما كتبتُ اللجوء إلى أساليبَ فنّيّةٍ وتقنياتٍ مكّنتني من تحدّي التقاليدِ والأعراف البالية، ومن الترويج للقيم والتطلّعات العصريّة التي تنتصر للإنسان، وتؤكّد أن حياة الفلسطيني لن تستقيم على نحو صحيح إلا بالتخلّص من الاحتلال، للظفر بحياة كريمة تتوافر فيها قيم الحرية والعدل والديمقراطية والأمن والطمأنينة والسلام.

2 

أنتمي إلى عشيرة بدويّة ما زالت تتداخل في حياتها اليوميّة أنماطُ العيشِ البدويّةُ والفلاحيّةُ والمدنيّة. ولعلّ جذوري البدويّةَ هذه هي التي ألهمتني ما يمكن أن أرويه عبر الكتابة، وما أرويه يستمدّ نسغَه من معايشتي لما تعانيه عشيرتي وغيرُها من العشائر البدويّة الفلسطينيّة، من قلق الانتقال من طور حضاري إلى طور حضاري آخر، ومن الصراع الناشئ عن ذلك على صعيد الفرد وعلى صعيد الجماعة، وهو قلقٌ يتمحور أساسًا حول ثيمتين لهما علاقة بالوطن وبالمجتمع، وأعني بهما حمايةَ الأرض والمرأة، مع ما تشتمل عليه مقولةُ حماية المرأةِ من مفاهيمَ بعضُها صحيح وبعضها الآخر يتناقض مع منطق العصر واحترامِ إنسانية المرأة وحقِّها المشروعِ في حياة حرّة كريمة، في حينِ تظلّ مقولةُ حمايةِ الأرض مقترنةً بالمفهوم الصحيح الذي يعني الدفاعَ عن الوطن ضدّ أيّ احتلال أو عدوان.  ولربما كان هذا سببًا من الأسباب التي حفّزتني على كتابة ثلاث روايات عن عائلة العبد اللات البدويّة، وعن مكان فسيح سكنته العائلة اسمه: البرّيّة؛ برّيّةُ مدينة القدس . 

3

ما كتبته في "فرس العائلة" وفي "مديح لنساء العائلة" يغطي فترةً من حياة الشعب الفلسطيني تمتد من بدايات القرن العشرين حتى أوائل الثمانينيات حين خرجت المقاومة الفلسطينية من بيروت في العام 1982، وفي رواية "ظلال العائلة"، تطرّقتُ إلى الفترة الزمنية من ثمانينيّات القرن العشرين إلى ما قبل أربع سنوات من وقتنا الراهن، وقتِ التحوّلات الاجتماعيّة والسياسيّة وما شابها من بؤس وخراب، ومن آمال وتطلعات. 

ولعلّ المشكلة التي سعيت إلى تذليلها قبل الشروع في كتابة "مديح لنساء العائلة"، هي البحثُ عن أسلوب السرد المناسب الذي يمكن تفريغُ التجربة من خلاله؛ أقصد تجربةَ عائلة العبد اللات التي أخذها الشتات إلى بقاع شتى بعد الكارثة الفلسطينية في العام 1948.  وكان هناك بطبيعة الحال إغراءُ المادّة التاريخيّة التي لا بدّ من التعاطي معها ما دمتُ أتابعُ التطوّراتِ التي طالت العائلةَ المذكورةَ في ظرفٍ تاريخي محدّد. وكان يتعين عليّ في الوقت ذاته أن أحذر من الوقوع في أسر التاريخ أو في شرك الرصد الفوتوغرافي لجزئيّاتِ واقعٍ مضى وما زال أثره باقيًا في الوجدان وفي حياة الناس. 

لذلك اعتمدتُ السردَ بضمير المتكلم، بحيث تتولّى الشخصياتُ الرئيسةُ في الرواية التحدّثَ عن نفسها وعن الآخرين، وبحيث تقوم ببلورة الأحداث من وجهات نظرها. كما اعتمدتُ أسلوبَ الرسائل التقليديّة الذي اضطلع به أحدُ أبناء العائلة، تعبيرًا عن حياته في المهجر، واستجابةً منه لما يعانيه أبناءُ عائلته في الوطن. وأظنّ أن ثمة مبررًا لاعتماد السرد بضمير المتكلم بسبب  تشظّي العائلة وظهورِ شخصيّة الفرد الذي لم يعد مستعدًا للانصياع لرغبة كبير العائلة كما كانت الحال في السابق. أدّعي أنّني استطعت من خلال ذلك السيطرةَ على مادة كثيفة تتباين فيها الأمكنة، ويشتبك فيها الخاصّ مع العام، وتتوزّع فيها الأحداثُ على امتداد أربعين عامًا، هي الفترة التي عايشتْها عائلةُ العبد اللات، وتعايشَ معها أبناؤها وبناتُها، وقد جرّبوا حلاوةَ العيش حينًا، ومرارتَه في أغلب الأحيان.

4

وقد أسهمت كتاباتي القصصيّةُ في تشكيل أدواتي السردية لكتابة الرواية، حتى إن نقّادًا أشاروا إلى أن روايتي الأولى "فرسَ العائلة" تنبني فصولها ومشاهدها من وحدات قصصيّة تتوإلى وتتكامل على هيئة سرد روائي، فيه استفادةٌ من الجملة المتحرّرة من  الزخارف اللغوية، وفيه كذلك استفادة من السخرية التي ظهرت في روايتي "مديح لنساء العائلة" وكنت كرّستها، أي السخرية، في مجموعتين قصصيّتين هما "صورة شاكيرا" و "ابنة خالتي كوندوليزا".

وسبق لي أن  كرّستُ كتبًا قصصيّة متّصلًا بعضُها ببعض، وفي الوقت ذاته منفصلٌ بعضُها عن بعض، حيث بالإمكان قراءةُ كلِّ قصةٍ على حدة، وبالإمكان قراءتُها في ترابطها كما لو أنها رواية؛ أقصد هنا كتبي القصصية: "احتمالات طفيفة"،  و"القدس وحدها هناك"، و"سقوفَ الرغبة"؛ و "حليبَ الضحى" الذي يبدأ من حيث انتهت روايتي الثالثة "ظلال العائلة"، ويظهر السياق الروائي في هذا الكتاب بوضوح لا لبس فيه. 

5 

كنت معنيًّا، وأنا أكتب رواياتي الثلاث، بتسليط الضوء على حياة البدو واشتباكهم مع الحداثة ومع الغزاة في آن واحد. وضمن هذا السياق كانت المحافظةُ على ذاكرة المكان وما تشتمل عليه من ميثولوجيا شعبية ومأثورات، ومن بطولات وتضحيات واحدةً من ركائز هذه الروايات، باعتبار ذلك حمايةً للمكان من التهويد، وللهويّة الفلسطينيّة من محاولات التبديد، تلك المحاولات التي لم تحقّق نجاحًا بسبب تمسّك الفلسطينيّين بأرضهم، وبانتمائهم لوطنهم، بحيث ظلّت الهويّةُ عصيّةً على كلّ المحاولات. بل إنّها ازدادت غنىً بالنظر إلى انفتاحها على ثقافات الشعوب من دون تعصّب أو انغلاق؛ وقد أسهم الأدب الفلسطيني ومن ضمنه الروايةُ بشكلٍ خاصّ في حفظ هويّة المكان الفلسطيني برغم ما يتهدّده من أخطار.  

ولأنّ القضيّة الفلسطينيّة تتأثّر إيجابًا وسلبًا بكلّ ما يحدث في الوطن العربي من تطوّرات، وحيث إنّ ما يجري الآن في بعض أقطار هذا الوطن الكبير يغطّي، بما يتّسم به من قسوة، على ما يرتكبه جيش المحتلّين الإسرائيليّين من جرائمَ ضدّ الشعب الفلسطيني في غزّةَ وفي ما وراءِ الخطِّ الأخضرِ وغيرهِما من أمكنة، ويغطّي كذلك على إجراءات تهويد القدس وابتلاعِ مساحاتٍ واسعةٍ من أراضي الضفّةِ الفلسطينيّةِ المحتلّة، فإنّ مهمّةَ الروائي الفلسطيني تصبحُ أكثرَ اشتباكًا مع معضلاتِ الوضع العربي وتأثيرِها المباشرِ وغيرِ المباشر على الوضع الفلسطيني.

وهذا يعني أنّ  ثمّة ضرورةً لكتاباتٍ إبداعيّةٍ متميزة يعي مبدعوها أهمّيّةَ الدفاعِ عن القيم التي تحترم إنسانيّة الإنسان، وتُعلي من شأن الديمقراطيّة والتعدّدية والمواطنةِ، وترفضُ التطرّف والإقصاء، وتعزّز في الوقت ذاته بقاءَ الشعب الفلسطيني صامدًا فوق أرضه، مستعدًّا للتضحية والبذل والعطاء من أجل انتزاع حقّه في الحرية والعودة وتقرير المصير والاستقلال.