• 7 حزيران 2022
  • مقابلة خاصة

 

بقلم : أ.د. مانويل حساسيان

 

بحثت في فلسفة التاريخ عن علم الكلام والقوانين الدستورية عبر الزمن، ولم أجد نموذجاً يحتذى به لعقلية نظام دولة مرت عبر العصور ورسخت هذا المفهوم الاستثنائي لعلم فلسفة النظرية السياسية ، لذا أخفقت في إيجاد الجواب لهذه المعضلة (المغلفة) بتناقضات ديالكتيكية وأخرى غير متوازنة كما يجب في علم الفلسفة والسياسة.

والزمت نفسي في الخوض بتجربة فهم المصطلحات السياسية ونظرياتها وكيفية تفسير هذا التناقض مابين الديمقراطية كمبدا سياسي ونظام الفصل العنصري ، حتى اثبت بان هذه جزء من التجربة الإنسانية عبر العصور في تاريخ البشرية ، ولكن تجربتي باءت بالفشل ، لذلك أردت تفسير هذا الشائب بعلم المنطق حتى اثبت بأن هذا النظام يعتبر خارجا عن قوانين الطبيعة والبشرية.

ان قوانين التطور الطبيعي والبشري مرتبطة عضوياً بفهمنا للجدلية المنهجية منها المادية والتاريخية ، وكيفية تلائم الفكرة ونقيضها بتفاعل عضوي لكي نصل الى الفكرة المركبة ، والتي بدورها تصبح فكرة تلد بداخلها نقيضها، ونتيجة لذلك نرى التطور بشكل واضح ، والاهم من ذلك لم نر مفكرين بالسياسة يبرروا هذا النظام في إسرائيل، ليس لعدم فهمهم هذه التركيبة المعقدة ولكن لظروف خوفهم وابتزازهم عدلوا عن التفسير بشكل واضح لهذا التناقض.

علم الفلسفة والتاريخ السياسي بدوره لم يسجل أي نظام سياسي بصفات دولة تدعي الديمقراطية وتمارس الاحتلال، طبعا لا يوجد أي تناغم او انسجام بين مفهومين على طرفي نقيض.

إذن كيف يبرر المجتمع الدولي بان هذا النظام القائم في إسرائيل هو المجتمع الديمقراطي الوحيد في الشرق الأوسط، علماً بان سياسة إسرائيل العنصرية باتت واضحة في المحافل والمؤسسات الدولية، والأدلة كافية لتجزم  بان مفهوم الابرتهايد واطرها السياسية دون الخوض في تفسير فلسفي لهذه الظاهرة

وإن عملية الاستنباط في تحليل الابرتهايد غير مبهمة وواضحة للعيان ، وتفسير وإخراج هذه النمطية من الحكم بادلة دامغة توصف بها من الناحية العملية لتطبيق هذا المفهوم على ارض الواقع واضح وجلي.   القانون الأول يبدأ بمفهوم الاحتلال وتحول هذا الاحتلال الى إستيطان متعمد من اجل الحصول على الجغرافية والتخلص بشتى الأساليب من الديمغرافيا الفلسطينية والتي تعتبر بحد ذاتها كابوساً للفكر العنصري الصهيوني. لا ننسى ان هناك ايضاً فكر يهودي معادي للصهيونية لا يؤمن بدولة إسرائيل نهائياً، ولكن هذا الفكر  للأسف يعيش حالة الاغتراب عن المنظومة السياسية الإسرائيلية وتأثيره ضحل. 

التجربة الإنسانية في بعض الأحيان تخرج عن المألوف وعن القوانين الاجتماعية والسياسية، وتاريخ الهلوكوست بغض النظر عن عدم انسانيتها، الا ان تداعياتها عكست بشكل سلبي لانتاج فكر صهيوني متعصب. الفلسطينيون يدفعوا ثمن العنصرية الأوروبية دون أي حسيب او رقيب، لأن موقف أوروبا خلال سبعة عقود لم يكن سوى  سلسلة من المواقف الخجولة والمسانده بكل وضوح لهذا النظام العنصري المستبد بشعبنا الفلسطيني.

لا أجزم بأن الشعب الإسرائيلي خلف هذه السياسات بشكل قاطع، ولكن هناك بعض المؤسسات التي تدعم حل الدولتين والسلام الدائم وللأسف يغردوا خارج السرب وعلينا عدم عزلهم ، بل اكاد اكون متأكداً بأنهم الغطاء للفكر الديمقراطي المتناقض لإسرائيل، إذ يجيدون اللعبة بامتياز لأنهم مبدعون في نشر الوعي عبر التواصل الاجتماعي والاعلام الموجه، ونحن للأسف منغمسون بالانقسامات والتشرذمات السياسيه والتي لا مبرر لها على الاطلاق وخصوصا في مرحلة التحرر .

إذن اين المنطق في هذا الاختلاف وخصوصاً نحن نمر بمرحلة التحرر من الاحتلال وبناء الدولة المستقلة بعاصمتها القدس الشريف. الا يكفي  بطش الاحتلال لرص الصفوف وتوحيدنا كشعب واحد يرزح تحت طائلة الاحتلال؟!. هل هذا قدرنا ويجب علينا الاستسلام له أو تناقض لا محالة لتجاوزه وطمسه للانتماء الأول والأخير وللأرض والوطن؟

هل نريد دولة ديمقراطية مبنية على منطق العدالة التوزيعية أم اممية بارجاع الدولة والحضارة الإسلامية. ؟! هنا يجب الوقوف لأخذ العبر من التطور التاريخي والحضاري للمجتمعات البشرية بدء من العهد الطوطمي الى الحضارة المادية السائدة اليوم في العالم بأسره.

هل نقبل بقوانين التطور البشري والحضاري دون قوانين الطبيعة والفيزيائية أم نريد عجلة الزمان بان ترجع الى الخلف لنمجد حضارتنا وانجازاتها التاريخية للمجتمع البشري؟!  هل نمتلك كل الأدوات لتحقيق هذه الإنجاز الذي بدأنا الخوض فيه منذ حملة نابليون على مصر 1798 م في زمن المملوك الحاكم لمصر انذاك محمد علي، وكيف نطور ونحدث دون الخروج عن مسار االأسلام الصحيح ومنه الصراط المستقيم.؟!

أنا مدرك بأن التيارات الإسلامية والسياسة ستكون على طرفي نقيض في طرحي لهذا الموقف لأني لأرى المصلحين في الإسلام لهم صوتا مدويا في الدفاع عن انسجام الإسلام وفهمه للحضارة الغربية وخصوصاً المادية فيها.

وبالمقابل نرى تعالي أصوات الإرهاب الاستيطاني الإسرائيلي، والدولة في انسجام واضح في تنفيذ المخططات من اجل الاستيلاء على المسجد الأقصى والحرم الشريف وتطاول المستعربين والمستوطنين على الأقصى وعلى مرأى ومسمع الدول العربية والإسلامية دون تحريك أي ساكن سوى الاستنكار والشجب.

اصبح الصراع الفلسطيني مع الكيان الصهيوني صراع وجودي وحضاري وليس فقط جغرافي، لذلك نرى البطش الإسرائيلي مع غلاة المستوطنين لشعبنا يزداد حدة وعنفاً في عملية إلغاء الطرف الاخر، إذ تحاول الحكومة اليمينية في إسرائيل بقيادة بينت ولابيد ان تصنع مفهوماً جديداً للصراع بتغليف ديني بحيث لا مجال للمهادنة والتسوية، بل تكثيف الصراع حول محور الدين لتثبيت وجودها في ما تدعي القدس الموحدة وذلك بسيطرتها على الأماكن المقدسة والغاء الوضع القائم.

هذه السياسة تحدي صارخ ليس لفلسطين والأردن الوصي على المقدسات، بل لكل الشعب العربي والإسلامي على حد سواء. لقد تعدت إسرائيل كافة الخطوط الحمراء لانها مدعومة من الولايات المتحدة مقابل عالم عربي منشطر على نفسه، ودول عربية مطبعة ومجتمع دولي يعاني من تأنيب الضمير للهولوكوست.

وفي ظل الانقسام الفلسطيني والظروف الموضوعية الإقليمية والدولية، لم يتبق سوى المرابطون في القدس للدفاع عن كرامة هذه الامة. أعلام ومواجهات وتحديات سافرة للوجود الاحتلالي في الأقصى وكافة الأماكن المقدسة المسيحية والإسلامية، اصبحوا الأمل الوحيد في مناهضة هذا الاحتلال. أطفال وشيوخ ونساء وصحفيين يغتالون كل يوم وشاشات التلفزة تنشر الخبر وبالمقابل شجب واستنكار ولاحول ولا قوة الا بالله.

السؤال الحقيقي هو كيف نصد نظام الابرتهايد الإسرائيلي في ظل الظروف السلبية الدولية والإقليمية؟ الإجابة ممكن ان تكون بسيطة الا وهو ترتيب البيت الفلسطيني ويبدا بإنهاء الاختلافات التناقضية السياسية التي دمرت وحدتنا الاجتماعية والنضالية وشوهت نسيجنا الاجتماعي والفكري والاقتصادي.

إن خطورة الإجراءات والتصعيد في القدس وعلى الأماكن المقدسة من قبل جيش الاحتلال والمستوطنين يتطلب منا العجلة لتوحيد كافة الجهود الوطنية من أجل التصدي لهذه السياسات القمعية والعنصرية ووضع حد للمخطط من أجل تهويد وتقسيم المسجد الأقصى مكانياً وزمانياً.

إن طبيعة المرحلة السياسية وخطورتها تتطلب بشكل ملح انهاء هذا الانقسام بتشكيل حكومة وحدة وطنية والتحضير لانتخابات عامة رئاسية وتشريعية، والمطلوب الاسهام في وضع استراتيجية وطنية تتعامل مع لب الصراع وبناء المؤسسات الوطنية، الخلاف الفلسطيني هو ايدلوجي بامتياز، وللأسف هذا الصراع الداخلي مرهون بأجندة إقليمية ولن تفض الى بالمشاركة السياسية وتوحيد الموقف الوطني من أجل دحر الاحتلال. هذا الاختلاف الجوهري يجب ان يترجم في ظل مفهوم المعارضة الامينة والتواصل في نقل السلطة بسلاسة ودون نزاع اذ يعتبر الأخير أساس مفهوم الديمقراطية في تداول السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية. أن الأوان لحسم هذا الصراع وتكثيف الجهود في تقليص التناقضات ورسم استراتيجية متفق عليه في احداث تغييرات جوهرية لمناهضة الصراع الذي دام اكثر من 70 عاماً.إذن المطلوب التحرك السريع بمعزل عن اجندات خارجية هدفها تمزيق النسيج الوطني والسياسي لمأرب واهداف أصبحت واضحة.

إنني كلي أمل بأن شعبنا يستحق الحياة الكريمة خالية من الظلامية والفئوية وبناء المؤسسات الديمقراطية لا إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف.

 

*سفير فلسطين لدى مملكة الدنمارك