• 13 أيلول 2022
  • مقابلة خاصة

 

 

 القدس - أخبار البلد - في إطار التعاون الوثيق بين شبكة " أخبار البلد" المقدسية وبين الكاتبة  نزهة الرملاوي  يستمر نشر  مجموعتها القصصية الشيقة التي تحمل عنوان " عشاق المدينة " على حلقات ، وسط ترحيب كبير من قبل  المتابعين الاعزاء .


أنا وظلي وذاكرة المكان

بقلم : نزهة الرملاوي

 

في ليلة مقمرة من ليالي الصّيف، وقفت عبير في شرفة منزلها في حيّ واد الجوز ونظرت إلى القمر وهو يضيء سماء المدينة ويبهج أرجاء المكان بشاعرية وجمال، غرقت في أفكارها ورجعت بذاكرتها إلى سني الطّفولة، وتاهت بين أزقّة المدينة لتتوارى عن أنظار ذلك العاشق الذي يعتلي سماء البلدة. تنهدت وقالت لنفسها:

أنا والقمر صديقان منذ الطّفولة، لعبنا معًا وضحكنا معًا، فحين كانت تتراكض خطواتي الصّغيرة في البلدة القديمة، أنظر إليه أراه يركض معي، أرفع رأسي عاليًا وأنا أركض لأفاجئه بالتّوقف، فأتفاجأ بتوقفه عن الجريّ في سمائنا، أختبئ خلف القنطرة حتّى لا يراني، وإذا به ينتظرني خلف تلك القباب، أخجلني ذلك العاشق في سماء مدينتنا.

أُعاود الجريّ ويعاود المشاكسة من جديد، فتدوّي ضحكاتنا لتملأ السّاحات برسائل حبّ لا تنتهي. لم أكن أتوقّع أنّ النّظر للقمر أثناء المشي والرّكض سيؤدّي بي إلى الوقوع أرضًا، مما يعرّضني للكسر والرّضوض، حُملتُ إلى بيتنا متألمة باكية تملأ صرخاتي زوايا بيتنا العتيق، تجمّع الجيران وبدأت أمّي بالبكاء، وتمنّت ما جرى لي يكون لنفسها بدلًا مني، وخرج والدي مُهرولًا إلى بيت المُجبّر أبي محمود الذي يسكن في (حوش الشّاي)، وعندما وصل أبو محمود حارة السّعدية برفقة أبي، كان صبيان الحارة بانتظاره، ولقد تعالت أصواتهم حتّى سمعتهم يردّدون: (جاء أبو محمود المُجبّر) وآخرون يردّدون:(أبو محمود أبو محمود طالع لو شوارب سود)، تمامًا كما سمع صوتهم قبل أيام حين ردّدوا: (جاء أبو دان المطهّر) (أبو دان أبو دانين) عندما حضر لبيت جيراننا كي يقوم بختان مولودهم البكر أحمد، وراحت أم أحمد توزع شوكولاتة (السّلفانا) على أهل الحارة.

أخذ أبي ينهر الأولاد ويعيب تصرّفهم حتّى راودهم الحياء، خجلوا ولم ينطقوا بحرف واحد. 

  يا الله ....صوت الأطفال ولمّة الجيران أرعباني، أفزعاني، (كنت صغيرة لا أعي المعاني السّامية في قلوب الجيران والأهل والأحبّة، وما تعنيه من الألفة والتّقارب والخوف على الآخر) يا الله كم أنا متألّمة وخائفة...وصوت الأولاد يرنّ في مسامعي (أبو محمود أبو محمود طالع لو شوارب سود) وراح داخلي يصرخ ويتساءل: ما الذي تفعله تلك الشّوارب بالصغار؟ أتحملهم وتقذفهم خلف العتمة؟ هل تقيّدهم؟

أبصرت وجه أبي وهو يحملني، رأيت في تقاسيم وجهه شنبًا يزيده هيبة وجمالا، ورجال الحارة يطلقون شواربهم للعنان فلا أخافهم، إلّا شوارب أبي محمود، خفت منهم قبل أن أراهم. 

 استأذن أبي بدخول المبنى كالعادة، وسمعت صوته مع أبي محمود المجبّر يردّدان (يا الله يا ساتر)

 (يا الله يا ساتر)، وما إن سمعت الجارات صوتهما من بعيد حتّى خرجن من بيتنا، وغبن عن الأنظار داخل بيوتهن وغلّقن الأبواب. 

أمسكتُ بيد أمي حتّى لا تتركني وتُغادر الغرفة، لكنّ عيون أبي النّاظرة إليها تأمرها بالانصراف خارج الحجرة، حتى ينتهي المجبّر من عمله ويخرج. تتفهّم أمّي نظرات أبي، وتتفهّم ما يعنيه قول والدي (اغلي قهوة لأبي محمود) بالرّغم من تغطية وجهها بالبرقع وتسترها، إلّا أنّ العادات في حاراتنا تجبرها أن تتركني، وخوفي وآلامي يجبرانني أن أواصل الصّراخ. 

ظلّ أبي يهدّئ من روعي ويضمّني إلى صدره بحنان، واعدا إيايّ بشراء تلفاز كالتّلفاز الذي اشتراه خالي الذي يسكن مع جدّي في حارة الشّرف قبل أيام، فلقد بهرني بما يبثّه، ومن نظرة أولى سحرني، وحلمت به أميرًا بل فانوسًا سحريًّا، أطلب منه ما أشاء وإذا به يلبي النداء في بيتنا.

انتهى أبو محمود من تجبير كسر خفيف في يدي، موصيا أبي ألّا أذهب إلى المدرسة غدا، حملني أبي وأمر أمّي الباكية بأن تأخذني من خلف الباب وسألها: 

 أين القهوة؟ 

ردت بصوت خافت واستحياء: (على البابور).

اطمأنّ قلبها بعد انتهاء المجبّر، حملتني بين ذراعيها إلى الحجرة الأخرى ومشت على عجل لغلي القهوة.

يا الله! ما زلت أذكر تلك الحجرة وما تميّزت به، فقد كانت مكانا للطّبخ والعجن والاستحمام، وعلى إحدى زواياها كان هناك صنبور للمياه (طرمبة ميّ)، (شكلها كعصارة البرتقال الحديدّية اليدويّة أو البلاستيكية في أيّامنا هذه)، تضخّ مياه الأمطار المخزّنة من البئر إلى أعلى، كانت أمّي كحال الأمهات تُسخّن الماء على (البابور)، وبجانبه تضع الطّشت (الّلجن) الحديديّ على عتبة الغرفة؛ استعدادًا لتغسيلنا، وتقوم بتحضير الصّابون النّابلسي (الجمل)، والّليف الذي صنعته جارتنا أم سليم. أمّا الّليف الغزّاوي - الذي كانت تبتاعه النسوة من النّساء (الغزيّات) المتجولات حينما كنّ يأتين المدينة فيبعن الملابس الدّاخلية وملابس الأطفال والعطور والأساور والمراهم وأشياء أخرى- فخشونته لا يقدر عليها إلّا الرّجال، وبعد الانتهاء من تنظيفنا، تشرع أمّي بتنظيف الغرفة من ماء الاغتسال الذي تجمع (الطّشت)، قبل سكب الماء النّظيف على الأرض، فيلاحَظ اللّمعان في الحجارة القديمة الملساء إثر شطفها، وفي بعض الأحيان كانت تقوم ببشر بعض من قطع الصّابون وغليها وسكبها على الأرض، لتفرشي به بلاط المنزل والفناء الذي يتوسّط بيوت الجيران، حالها كحال السّيدات في ذلك الزمن، فقد كنّ يتباهين أمام بعضهن بترتيب غرفهن ولمعان بلاطهن وأوانيهن النّحاسيّة ببقايا الّليمون. أما تنظيف الأواني المصنوعة من الألمنيوم فقد كنّ لا يقنعن إلاّ بلمعان يرين فيه وجوههنّ بلا منافس، ولنشر الملابس رونق خاص وترتيب مميّز على أسطح المنازل المقدسية، حيث كانت النّسوة، يساعدن بعضهنّ في ترتيبه ونشره، ويتسلين على الأسطح ويتبادلن الأحاديث، فأسطح المنازل متلاصقة، شامخة متّحدة أمام نوائب الزّمن وتقلّباته. 

يا الله! ما زلت أذكر حين كانت أمي رحمها الله تزور جارتنا نعمتي، حيث كانت تقوم بمناداتها من السّطح المجاور لسطح منزلها، فتقوم الأخرى بوضع سلم خشبيّ ليتسنّى لأمّي الوصول إليها بعد نزول درجاته، ولتتمكّن من ذلك كانت تضمّنا إلى صدرها، ثم تمدّ جسدنا إلى الجارة، كي تلتقطنا أنا وأختي قبل نزولها أدراج السّلم الخشبيّ.

هناك في بيت نعمتي، تجتمع أمّي مع نساء أخريات، يأخذهن الحديث والحكايات والحنين والذّكريات إلى طفولتهن الّتي ما غابت، فأكبرهن سنا لم تتجاوز الثلاثين عامًا، ويستمعن إلى أغاني عبد الحليم حافظ، وصباح وشادية وفريد الأطرش وغيرهم من المغنّيين والمغنّيات من المذياع. وإذا ما قمن بزيارة لوالدتي يوما ما، تسعد بلقائهن وتقدّم لهنّ الحلوى والشّاي والقهوة، وتُسمعهن الأغاني من آلة الأسطوانات (لعبد الوهاب وأم كلثوم وناظم الغزالي وغيرهم) من الأسطوانات التي كانت في بيتنا في ذلك الزّمن، فلقد حرص والدي أن يواكب التّطورات التي عرفت قديما، فما زلت أذكر أنّ أول بيت في الحارة عرف التّلفاز كان بيتنا، دُهش الجيران وأصابهم الفضول، وراح الأولاد يجلسون على عتبة بيتنا، ويتدافعون بسبب صغر البيت؛ لمشاهدة ما يبث في التّلفاز من برامج قليلة، ونشرة للأخبار، رغم التّشويش الدّائم في وجه زائرنا الجديد.

بعد أيام من تجبير يدي، فتحت الباب الكبير وخرجت من المنزل، يا لها من إشراقة شمس لوّحت لي من خلف النافذة، سمعتها تناديني، سلبت خيالي فغدوت إلى الحارة، لا أحد بها إلا أنا والشّمس وظلّي الّذي يقصر ويطول أمام هذا الشعاع المتمدّد في حضرة مدينتنا، أين النّاس؟ أين الأولاد؟ لا بيع ولا شراء؟ 

هربت منّي الأيام ثم تذكّرت أنّ ذلك اليوم كان يوم الجمعة، وأنّ أهل الحارة ما زالوا نياما، وحين ينهضون من نومهم يغتسلون استعدادا لأداء صلاة الجمعة في المسجد الأقصى المبارك، ثم يتناولون فطورا شهيًّا من الكعك والحمص والفول والفلافل.

يا الله! كنت قد نسيت فتذكّرت أنّ اليوم سنزور بيت خالي، فقد دعانا للاحتفال بمولد ابنه البكر في سنته الأولى، فقد رزق به بعد أن تزوّج وهو في أواخر الثّلاثين من عمره، وقلّما كان الشّاب يتعدّى ذلك العمر دون زواج في تلك الأيام. 

ودّعت الشّمس وظلّي الذي تركته خلفي على الحيطان وفي أرض الحارة، وعدت إلى البيت متسلّلة، رآني والدي وصرخ صوتا أرعبني، وسألني: أين كنت؟

 تلعثمت الكلمات وتاهت منّي، ماذا أقول له، كنت ألعب مع ظلّي؟ هل سيصدق أنّي كنت أخبئ ظلّ وجهي المرسوم على حائط الحارة بيدي فأراه فوقها ضاحكًا مستفزًا، يتلاعب بمشاعري دون اكتراث؟ 

ركضت من أمام أبي الغاضب، وحاولت الاحتماء والاختباء، وإذا بي أدفع التّلفاز دون قصد فيهوي أمام عينيّ كالبطل المهزوم في لحظة غفلة.