• 26 أيلول 2022
  • مقابلة خاصة

  القدس - أخبار البلد - كتب خليل العسلي:

 لماذا يجب قراءة كتاب " رحلة الأجداد من الأزل إلى الأبد " للباحث في علم الحضارات الإنسانية الدكتور علي قليبو؟ 

 هذا السؤال طرحه على أحد الكتاب والمؤرخين العرب الذين اقترحت عليه قراءة هذا الكتاب لأهميته. 

 فقلت له إنني أعرف عن قرب الجهد الكبير الذي بذله مؤلف الكتاب والنقاشات الحادة التي جرت على مدى سنوات طويلة  بيني وبين الصديق الدكتور علي قليبو ، حول الهوية الثقافية الحضارية للفلسطينيين ، ذلك السؤال الذي حاول قليبو أن يجد الإجابة عليه عبر أبحاث والمراجع ما بين الرُقِيمات الفرعونية والبابلية وما بين الروايات التوراتية والآيات القرآنية التي استلهم منها الإطار العام لتاريخ جغرافية فلسطين الاجتماعية والثقافية، ليقطف منها لمحات حول عادات وعقائد أجدادنا الدينية والاجتماعية وانتشارهم القبلي في فلسطين من منظور دراسة علم الأنساب العربي، والتي تعززها البيانات التجريبية عبر أبحاث ميدانية أنثروبولوجي في القرى الفلسطينية بعض هذه الجولات ظهرت على شكل مقالات نشرها الدكتور علي قليبو في مجلات أجنبية وبصورة شبه شهرية  "هذا الأسبوع في فلسطين" باللغة الإنجليزية التي يتقنها بشكل مثير للانبهار،  كما نشرت بعض الجولات أيضا في شبكة " أخبار البلد" المقدسية،  ولاقت في وقته استحسانا كبيرا لدى القراء والمتابعين، فالموضوع جديد نوعا ما ولم يعرض بهذه الصورة  القريبة إلى الخبير والمواطن العادي من قبل . ومن هنا يمكننا أن نقول أن هذا الكتاب هو الأول من نوعه حيث يتناول  في البحث والدراسة فلسطين من الشمال إلى الجنوب بشكل متواصل من بانياس  بالشمال وصولا الى عبدة وسبيطة في النقب ، يصحبنا معه في نص سردي غني بالصور  في نظرة تأملية تحليلية من خلال منظار علم الإنسان الحضاري لمختلف المواقع الأثرية المرتبطة بالمدن الكنعانية منذ العصر الحجري والبرونزي حيث استقر  منذ  عصور سحيقة القدم أجدادنا النطوفيين وحيث استقرت في الألفية السادسة قبائل العموريين الذين تنحدر منهم  كما يتبين لنا ذلك من علم الجينات المتوارثة....

الكتاب جدير بالقراءة حيث انه أطروحة تعرض جذور  الشعب الفلسطيني من وجهة نظر كنعانية فلسطينية  تطرح لنا رواية الشعب الفلسطيني في أرض الأجداد عبر منهج علمي دقيق فيكتنز الكتاب بالأدلة والبيانات العلمية للتراث العمراني العموري والرموز الدينية الكنعانية ،  في مجموعة صور اختارها الدكتور قليبو لعرض أطروحته  التي تشمل قراءة الرموز المتروكة هنا وهناك، فيكشف لنا عبر زيارة المواقع التاريخية مستعينا بعلم الآثار عن تخطيط المدن المندثرة و صروحها الدينية ومقابرها التي توفر المعلومات التي تسند وتصقل إدراكنا لمنظومة الحياة الاقتصادية والدينية والاجتماعية لأجدادنا، كما توفر مقابرها بيانات علماء الجينات لكشف هوية القبائل التي استقرت بفلسطين عبر التاريخ مرورا بالنطوفيين والقبائل الكنعانية العمورية قبل ستين قرنا من الزمن وارتباطها بالشعوب السامية الأخرى، وبطرق الهجرة والتوسع الديموغرافي في الجزيرة العربية عامة والهلال الخصيب بصورة خاصة عبر دراسة مُعدّل التحوّرات الجينية المُعيّنة وتُكتّلها في متوارثات  Allelesعبر الزمن. فتجتمع هذه المصادر والتي تشمل الزيارات الميدانية للقرى الفلسطينية ودراسة علم الأنساب وعلم الديانات المقارنة والتاريخ وعلم الآثار والخطاب التوراتي كنقطة انطلاق في اجتهاد الباحث في قراءة تأملية تحليلية نستكشف في متن الصور والنص الإثنوغرافي "أرض الأجداد: من الأزل إلى الأبد" معالم الهوية الفلسطينية وعلاقتها بالأرض وارتباطها بالزراعة البعلية والتي لعبت دوراً مهماً في تكوين عناصر بنيتها في منظومة دينية واقتصادية واجتماعية وثقافية. 

يدهشنا حجم المعلومات التي يوفرها الكتاب من الحلزون والرخويات على شواطئ عكا الأبية والتي استعملها أجدادنا لاستخلاص اللون النيلي والأرجواني فكانت السلعة الثمينة التي مخرت سفنهم عباب البحر الأبيض المتوسط والتي بفضلها بنيت عظمة قرطاجة،  لتشمل الدور الذي لعبه "الحمار" على الصعيد الاقتصادي في الألفية الرابعة قبل الميلاد وأهميته الرمزية لدى الأنبياء من سيدنا إبراهيم عليه السلام وصولا الى سيدنا عيسى عليه السلام . وهذا بحد ذاته جديد 

ولعل ما يميز هذا الكتاب عن غيره أنه لا يسير وفق المنهاج الدارج بين المؤرخين والمثقفين الفلسطينيين الذي ينحصر في المفهوم الشائع بهدف إنقاذ ما يمكن إنقاذه و جمع وأرشفة البيانات ، بدون تحليل وبدون أي منهاج واضح ورؤية شاملة ، على عكس المنهاج المألوف نجد قليبو ينتهج في أطروحته "التاريخ" كعملية "تأريخ"   تعتمد كركيزة لها الاجتهاد والتفسير عبر منهجية يتم بها اختيار المعلومات المستقاة عبر الأبحاث وانتقائها وتنسيقها وفق خطاب ممنهج ليظهر علاقة الفلسطيني بالأرض وعمق امتداد جذوره بالأرض وأجدادنا منذ غابر الزمان الذين ما زلنا نسير على خطاهم:

هذا الكتاب بالأسلوب السهل الممتنع  يمتاز بالطريقة التحليلية التجميعية بهدف رسم  لوحة لمعالم الهوية والرواية الفلسطينية فتكتشف عبره على معالم الإرث الفلسطيني من مدن ومعابد كنعانية  تدهشنا بعظمة  إرثنا المعماري العظيم والذي يوازي بعظمته الصروح المعمارية الفرعونية والبابلية كما نتجلاها في بيت جبرين وفي سبيطة ومدن النقب وفي حاتصور شمال طبريا ومجدو في مرج ابن عامر وأبو شوشة (جيزر) ولاخيش... 

 وتمكن قليبو من تقويض الفكر التوراتي الذي يبدأ بالنظرة الشعوبية التوراتية فترة متقدمة من التاريخية لنرى أن مختلف الأمم من العمالقة  اليبوسية والاشوريين والموابين  والادوميين والأنباط  على سبيل المثال وليس الحصر ينحدرون  من القبائل العمورية والتي يعود تاريخها  الى الالفية السادسة قبل الميلاد ، حيث انتشرت من الشمال للجنوب وصولا الى بابل والجزيرة العربية ودلتا النيل .

 وتتعرف في كتاب "أرض الأجداد" على دور الكنعانيين وجغرافيا أرض كنعان في تشكيل أهم الخصائص العربية لتشمل البنية القبلية حيث أصبحت الحامولة تلعب مكانة قصوى كوحدة مجتمعية في إطار عشائري قبلي والتي تشكلت في البيئة الفلسطينية في منطقة حوض جبل واد الخليل الذي يمتد عبر النقب و مرورا ببير السبع وصولا الى وادي غزة  بالغرب ووادي عربة بالشرق وفي نفس الجغرافيا نشأت نواة الفكر الديني....

 من هنا فإنه يجب قراءة الكتاب أكثر من مرة حتى نصل الى ما يريده المؤلف الذي استخدم الصور المكثفة لشرح ارثنا التاريخي الديني الاقتصادي الاجتماعي المبني على الزراعة، فالصورة ليست بيانا توضيحي تكميليا بل هي بمثابة البيانات التي تقدم النواحي المختلفة من الهوية الفلسطينية.

 ما اثار انتباهي وبالتأكيد فور فتح الصفحات الأولى من الكتاب هو وضع صورة حلزونة بحرية صغيرة قام بتصويرها المؤلف أثناء سيره على شاطئ بحر عكا بحثا عن الهدوء الداخلي وترتيب الأفكار المتزاحمة. 

 وعن ذلك قال الدكتور علي قليبو في حديثه لشبكة " أخبار البلد" ان من هذه الحلزونة استخرج أجدادنا اللون القرمزي أو النيلي والذي اصبح اعظم سلعة انتقلت عبر البحار  تبوأت المكانة العظيمة في العالم القديم.

 وباختصار فإن كتاب د علي قليبو "ارض الأجداد من الأزل الى الأبد" جدير بالقراءة حيث انه مدخل لدراسة تاريخ الهوية الفلسطينية، بلغة سلسة ممتعة كما عهدناها في مقالاته وكتبه السابقة فهو إجابة على سؤال" من أنا؟"  "من اين اتينا ؟" وما هي علاقتنا بالأرض وكيفية استحواذنا على تراثنا المعماري الفكري لحضارات ما قبل الإسلام فالكتاب كما يقول د. علي قليبو رواية فلسطينية بمنظور فلسطيني:

"إن الرواية التي أرويها لنفسي هي الصورة التي أعكسها للآخرين عن ذاتي، حيث أن الإجابة على هذه الأسئلة الوجودية المرتبطة بكياني وارتباطه بأرض فلسطين، تقود في النهاية إلى هويتي وشخصيتي التي تدحض محاولات الصهيونية العالمية لطمس وتزوير التاريخ من أجل الاستحواذ على إرثنا الحضاري في جغرافيا فلسطين الثقافية."