• 28 أيلول 2022
  • مقابلة خاصة

 القدس - أخبار البلد - في إطار التعاون الوثيق بين شبكة " أخبار البلد" المقدسية وبين الكاتبة  نزهة الرملاوي  تستمر الشبكة في  نشر  مجموعتها القصصية الشيقة التي تحمل عنوان " عشاق المدينة " على حلقات .

 تلك المجموعة التي تثير  الكثير الحنين الى ماضي في نظر من عاشه كله حب وحنان ، بحلوه ومره ولكن هذه  الذكريات تبقى جميلة لمدينة كانت  صغيره  وحنونه على أبنائها الذين عشقوها بكل جوارحهم  وقبلوا  كل ذرة تراب من ترابها المقدس .

 

                    فناجين على صواني الذّاكرة

 

بقلم : الكاتبة نزهة الرملاوي 

 

طلعت شمس النّهار في مدينتنا، وأخذت أبواب المدينة ترحّب بزائريها وتودّع أبناءها الغاديين إلى أعمالهم، وتستودعهم عند الذي لا تضيع ودائعه، فقد أرضعتهم حليب الوفاء، وعلمتهم معنى الانتماء، بدأت روائح الفجر تنتشر لتعلن بدء يوم جديد.

 أخذت أمي تستنهض أبي من نومه ليغدو إلى عمله صباحًا مردّدة بهدوء:

(وحّد الله ابن عمّي ....قُم واشرب القهوة) يا لها من أصوات تبعث الأمل في روح المدينة وأزقتها. 

(يا فتّاح يا عليم يا رزّاق يا كريم)، هكذا كان أبي يبدأ يومه كبقية الرجال حين يذهبون إلى أعمالهم وأرزاقهم. 

بدأت الشّمس بالتسلّل إلى حجرتنا، وبدأ صوت أمي يتخطّر بأرجاء المكان، وفجأة تتوقّف خطواتها وتقترب من مسامعنا، فهي تعلم مسبقًا أنّنا نصطنع النّوم في هذه السّاعة كبقية الصّغار؛ حتّى لا نترك فراشنا ونذهب إلى مدارسنا باكرًا، ويعلو الصّوت فيبدأ الموشّح اليومي المعتاد (يلا يا بنات تأخرتو رنّ جرس المدرسة) ويرنّ صوتها فوق رؤوسنا، فما زال ذلك الصّوت محفورًا في جدار القلب، تنبض حروفه بذاكرتنا ما دامت فينا الحياة.

يا الله! ما زلت أذكر شقاء أمّي وتعبها، وأبكيه في كلّ السّاعات، وهي لا تكترث، ولا تبالي لألم قد يُصيبها، وتردّد أنّ كلّ تعب يصيبها فداء لعيوننا.

ما زلت أذكر يوما من أيام شقائها الذي لا يُنسى، وكيف لي أن أنسى وأنا في كلّ يوم أعدّ الشّطائر لأولادي ولي صباحًا حتّى نتناولها أثناء استراحتنا في المدرسة؟

لتلك الشّطائر الصّباحية، حكاية مؤرّخة في ذاكرة الرّوح والمكان، حتّى حيطان المدرسة وسطح منزلنا شاهدا على شقاء أمّي في ذلك اليوم، فقد نسينا أنا وأختي الشطائر التي أعدّتها أمّي صباحًا وغادرنا مسرعات قبل قرع الجرس المدرسيّ.

وقفنا بالطّابور الصّباحي وبدأنا بقراءة الفاتحة مع طالبات المدرسة، أدرت وجهي صوب سطح منزلنا المجاور لمدرسة القادسيّة القائمة في باب السّاهرة، وإذ بأمي على سطح المنزل واقفة حائرة! لمحتها ومضيت مع أترابي إلى صفّي، جلست في مقعدي، وتناسيت وجود أمّي، فأنا أعلم أنها ستعود للبيت بعد دخولنا الصّف.

يا الله!

 حنين للماضي يشدّني لصفّي، لمدرستي القابعة في قلب المدينة خلف أبوابها الخالدة، وساحاتها التي عجّت بأقدام الصّغيرات وألعابهن، ونوافذها التي خبأت على زجاجها آلافا من العيون الواعدة، وأبوابها التي توافدت إليها أجيال وأجيال، وصفوفها التي عملت من أحلامنا أجنحة وطارت بها في سماء المدينة، حاملة الأمل نحو السّحاب، ومعلماتها الّلواتي توّجن المجد والإقدام في خيالي.

يا الله! أما زالت تذكرني تلك المقاعد؟

 أما زال صوتي يرنّ في أصداء الصّف كالتّراتيل من عهد قديم مطبوع في الذّاكرة؟؟

 لك الله يا أيام! على مقاعد الدّراسة غفت جدائلي، وعلى أدراجها راحت يدي تخطّ ما أمرت به من واجبات وكتابات وألوان عبثت بها طفولتي، فخبأتها من مارد النّسيان، وتوّجتها ملكة متحدّية في عرش العلم والمعرفة. 

مضت ثلاث حصص تدريسيّة، حان وقت الاستراحة، خرجنا من صفوفنا إلى السّاحة، بدأت اللعب ولمحت أمّي ثانية على سطح منزلنا، وكأن قلبي يدلّني على وجودها، فقلما أترك الّلعب وأنظر إلى أسطح المنازل المجاورة للمدرسة، أو المطلّة عليها من الحارات الأخرى، أسرعت إلى سّور المدرسة الموازي لسطح منزلنا، وسألت نفسي ماذا تريد أمّي؟؟

أتراها بقيت على السّطح تنتظرنا طوال هذه السّاعات؟

وأخي الصّغير أين تركته؟

أشارت لي أمي بيدها وضحكت. لا، فمن غير المعقول أن تتركه طوال هذه المدّة وحده.

وبكل ما أوتيت من قوة، قذفتِ الشّطائر المنسيّة لتصل إليّ؛ حتى نأكلها أنا وأختي، ولكن خاب ظنّها وظنّي، وخانتها قوّة يدها رغم شبابها، فالمسافة لا يُستهان بها، ربما تكون عشرة أمتار أو أكثر 

(بحسب ذاكرتي الصّغيرة)، فلقد لاحظت مؤخرًا أنّني كلّما كبرت وجدت الأشياء أصغر ممّا أتصور أو أتوقع. 

وقعت الشّطائر في ساحة مهجورة تابعة للمدرسة تفصلها عن بيتنا، أخذت أمّي تضرب كفّيها على ما فعلت، وراحت تؤنّب نفسها وتسألها ما العمل؟ ماذا ستأكل البنات؟

هل ستبقيان على جوعهما حتى الواحدة، ستموتان جوعًا، ماذا أفعل يا ربّي؟

وضعت بعض الحلول كالعودة إلى المنزل في الطّابق السّفلي من العمارة وعمل شطائر بديلة عن الّتي وقعت، عدلت عن رأيها لأن الوقت سينتهي قبل أن نتناول فطورنا، أتترك أخي الصّغير في البيت وتخرج لشراء شطائر الفلافل من باب السّاهرة؟ سيصحو الصّغير ويبكي غيابها، وسيمضي الوقت دون أن نأكل، قالت بصوت عالٍ: "نادي المعلمة المناوبة"، ناديتها فشرحت أمّي لها ما كان، وأثارت عاطفة المعلّمة بأسلوبها وحنانها الواضح والنّابع من ثنايا القلب المختبئ خجلا، طلبت المعلمة من الآذِن أن يفتح الباب الحديديّ الصّدئ، وينزل الدّرج إلى الأسفل؛ ويلتقط الشّطائر الهاوية ويعطيني إيّاها. 

نزل الآذن الدّرج، ثار فضولي، كنت دوما أسمع أنّ في هذه السّاحة (غولة) أو (جنيّة) تخطف النّاس، تحملهم وتهرب بهم بعيدًا، تبعتُه ونزلت بضع درجات لا أكثر، رغم خوفي إلا أنّي نظرت إلى أسفل (بحكم وجود أمي النّاظرة إليّ من سطح منزلنا، ووجود الآذن في زاوية السّاحة الصّغيرة المهجورة) ووجود المعلّمة المراقبة من الأعلى، رأيت مقاعد مكسورة، وأدراجًا محطّمة مرّت عليها أعوام كثيرة دون معاينة، وبقايا أوراق، وكتبًا قديمة ممزّقة. 

شكرت أمي المعلّمة صاحبة القلب النّبيل، ولكنّها لم تبرح سطح المنزل، حتى أخذت الشّطائر من الآذن، لمحت أمّي من بعيد تؤشّر بيدها إلى فمها، تأمرني أن أتعجّل بتناول الشّطيرة …

قرع الجرس؛ فمنعني حيائي من أكلها.

يا الله! كل شيء يذكّرنا بأحبّتنا، بالمنازل والجدران المبنيّة من عرق الأجداد وعراقة الماضي. معلماتنا الخالدات كالأقمار في سماء ذاكرتنا على مرّ الزّمن، وزميلاتنا اللواتي يتواجدن في صور ماضينا أزهارٌ يانعة تتفتّح على أسوار قلوبنا... والبيت والذّكرى والعناوين القابعة خلف المسافات تذكّرنا عتباتها بجلوس أمّي وجاراتنا واحتساء قهوة الصّباح والمساء. رحلت أمّي ورحلت الحياة بعدها، وبقى البيت ينعى أحبّاءه، وبقيت فناجين القهوة بخطوطها ورسومها على صواني الذّكريات.