• 13 كانون أول 2022
  • مقابلة خاصة

 

 القدس - أخبار البلد - وصلنا في كتاب " عشاق المدينة" للكاتبة "نزهة الرملاوي"  إلى الحكاية الحادي العاشرة في سلسلة القصص القصيرة التي يحتويها هذا الكتاب والذي تقوم " أخبار البلد" المقدسية بنشره على حلقات إيمانا منها بأهمية الأدب في الحفاظ على هوية المدينة، وأهمية أن يطلع المواطن العربي في كل مكان في العالم على هذا المنتوج الأدبي القادم من القدس الحبيبة .

 واليكم الحكاية : 

زقاق البوس

غابت شمس مدينتنا، وتوارت عن أنظار منازلنا والقباب بعد أن طبعت قبلة تعظيم على جبين مآذنها وكنائسها النائمة في قداسة المكان، وأخذت العتمة تفترش حاراتها وأزقّتها، لتسامر الهدوء الذي بسط سيادته على أسواقها وساحاتها وخلف جدرانها بلا منازع.

       استوقف الهدوء أنين صبيّة لم تتجاوز السّادسة عشرة من عمرها تبكي بحرقة، وزوجها الثّمل يركل جسدها دون رحمة، بدأ صوتها يخرج ببطء، مع أنّها تدرك أنّه من العيب إسماع الجيران القاطنين حول منزلها صوتها أو بكاءها، ويجب عليها أن تصبر وأن تكتم تلك الهموم السّاكنة في داخلها، هذا ما لُقّنت به قبل الزّفاف. وعلى الرّغم من حرصها على كتم أنينها وصوت بكائها، فقد أخذ يعلو من الألم وانفجر مستغيثا...وكلّما علا صوتها واشتدّ بكاؤها ورجاؤها، ازدادت الضّربات واللّكمات، سمع صوت تهاني المبحوح قائلا:

(حرام عليك ..تأتي البيت سكرانا وتضربني...ماذا فعلت لك؟ أهذا ما أوصاك به والدي؟

ردّ رجب بصوت عال وكلمات متقطعة قائلا: (حرمت عليك عيشتك)، ساعة وأنا أتحايل عليك لتفتحي الباب حتّى لا يراني أو يسمع صوتي أحد الجيران يا بنت ال....

تهاني: تستحي من الجيران إن شاهدوك أو اشتمّوا رائحتك صدفة،  ولا تستحي من الله الذي لا تغيب عن عينه أبدا؟ 

هدأ البيت بعد معركة من الضّرب والشّتائم وسبّ الذّات الإلهيّة، والألم والأنين والبكاء والرّجاء....أوقع الزّوج الثّمل جسده المثقل على عرض السّرير، ولم يعد للزّوجة مكان عليه كالعادة.

افترشت رطوبة الأرض وراحت تندب حظّها وتواصل بكاءها، دارت بها الدّنيا وقالت في نفسها: لم يعد لي مكان في هذا البيت، سامح الله أهلي، حرموني من التّعليم وقالوا: زواج البنت سترة، ورموا كلّ أحلامي في بحر الأمنيات، وزوّجوني بسكّير، والدته ترى كلّ شيء، ولا تفعل أيّ شيء دائمة القول: (لم يكن ابني قبل الزّواج يسكر، أنت بأفعالك وأقوالك أجبرته على ذلك، دائما تعايريه أن جدّك كان باشا، وأبوك كان من أصحاب الأملاك ورث عن أبيه المحّلات والأسواق في يافا والرّملة والبقعة، ما الفائدة؟

    (لم يبق لكم إلاّ النفخة الكذّابة) استولى على أملاككم اليهود، لم يعد لكم غير التّحسر على ما كان كحال الآخرين، وأنت ما زلت تتفاخرين وتشعرينه أنّكم أفضل منّا نسبًا، ولو أنّكم بقيتم على حالكم، لما زوّجك أبوك من ابني الذي ترك له والده متجرًا كبيرًا في سوق القطّانين، تأكلين وتشربين منه، ما بيدي حيلة، اصبري.

سألتْ تهاني نفسها مرّة أخرى: ترى أيّ أفعال أعملها تجبره على الشّرب حتى الثّمالة والإدمان؟ ما الّذي فعلته حتّى يبعثر أمواله في لعب القمار؟

 ماذا أفعل؟ إذا بقي على تلك الحال لن يبقي على قرش واحد وسيباع المتجر في المزاد العلنيّ؟

وتعود لتسأل نفسها: أي الأعمال أرتكبها لكي يثمل؟

أيكون السبب ابتعادي عنه وهو سكران وخروجي من الغرفة كي لا أحظى بتلك الضّربات الّتي تمزّقني وهو لا يعي ما يفعل؟

يا الله!

 ماذا أفعل؟

أبي وأخوتي لا يحتملون وجودي كمطلّقة بينهم، فلا مطلّقة ذكرت في تاريخ عائلتنا، وأمّي أيضا تخشى عليّ من الطّلاق، فلا يهمّها الاّ العادات والتّقاليد والألسن التّي لا ترحم، ولا تغني ولا تسمن من جوع.

يا ربّي ماذا أفعل؟

رفعت يديها إلى السّماء تناجي الله وتستغيث بربّ العباد قائلة:

ضاقت بي السّبل، وليس لي إلّا سبيلك يا رب... يا من وسعت كلّ شيء رحمةً وعلمًا، ارحمني من هذا العذاب وثبّتني.

     الظلام يخبئ الأحزان والآهات تحت جناحيه خلف جدران البيوت التي تتجذر في ساحات المدينة وفوق قناطرها التي تؤرخ نوائب الزمن، حاولت تهاني النّوم، كيف لها أن تنام وفي عينيها ألف دمعة، نهضت بعد أن استوطنت خيالها فكرة واحدة، ألا وهي الهروب، وفتحت خزانة ملابسها وأخرجت منديلا كبيرا، وضعت فيه بعضًا من ملابسها، عملت (بقجة)، لبست الملاية وأسدلت برقعًا أسود على وجهها اعتادت لبسه بعد الزواج، وهمّت بالخروج من البيت وقالت في نفسها: 

(بنات الأكابر في المزابل).

فتحت تهاني الباب، وخطت خطوة واحدة في عتمة (الحوش)  

هتف داخلها: أين تذهبين؟

ماذا سيقول النّاس عنك وأنت ابنة الأشراف والحسب والنسب؟

هل ستضعين وجه والدك وإخوتك وشرف عائلتك في الأرض؟

هل ستصبحين مضغة في الألسن صباح مساء؟

هل سيكون هروبك ذريعة لضربك وشتمك من زوجك الثّمل المقامر بعد القبض عليك؟

جدّد داخلها الصّراخ والعتمة تزداد اسودادًا، خافت، ارتعدت فرائصها، وعاد داخلها للهذيان قائلا: 

خارج البيت غولة تنتظرك على حائط الجيران سوف تخطفك وترحل بك بعيدا، لتحتفل بوجبة دسمة مع صغارها في الخلاء خلف الأسوار، وسيرمون عظامك على شجرة سرو عالية فلا يعثر عليك أحد، وخارج البيت عيون ترقب النّساء إذا ما خرجن ليلا فيضعوهن في كيس من الخيش، وينقلوهن بعيدا فيأخذهن يهوديّ سيبيعهنّ في مقمرة بثمن بخس.

لم يعد هناك أمان خارج البيوت، هناك سكارى يترنّحون ويكفرون ويشتمون بين الأزقة ومفارق الحارات، تعلّموا السّكر والعربدة بعد انخراطهم بالعمل عند اليهود المتواجدين غرب المدينة.

لملمت دموعها، وجرّت ذيلها، ولم تتقدم، أغلقت باب منزلها المؤدي إلى (زقاق البوس)، 

عادت أدراجها وجلست على عتبة حجرتها والخوف يخبط أفكارها، توسّدت البقجة التي حملتها للهروب، رفعت البرقع المنسدل عن وجهها وغفت. 

     علت أصوات الكنائس في المدينة وصدح المؤذنون بالتّكبير لصلاة الفجر، صحت تهاني من غفوتها بعد أن رأت فيما يشبه الحلم، أنّ عجوزا قد هزّت كتفها حتّى تصحو من غفوتها وتؤدّي صلاة الفجر مردّدة على مسامعها عبارات التّوحيد (وحدّي الله، انهضي، توضئي حان وقت الصّلاة).

أخذ لسانها يردّد: لا إله إلّا الله محمّد رسول الله... 

دبّ الرّعب في قلبها حين اختفت تلك العجوز من أمامها، وتساءلت: أحلم ما أراه في بعض اللّيالي؟

 أم هم ملائكة المدينة الذين نسمع عنهم ونستأنس بذكرهم؟ يتشكّلون ويظهرون للمؤمنين لإعانتهم وتثبيتهم في محنهم، لا بدّ وأنّ سماء المدينة تعجّ بالآلاف منهم لقداستها، يعرجون ويهبطون، يستغفرون ويسبّحون. 

قالت في نفسها: نعم، لن أتوان في اللّيلة القادمة عن انتظار أحد الملائكة في بيتي، وأفضي إليه بكلّ ما يجول بخاطري حتّى الهروب من هذا المنزل اللّعين.

أيقنت أنّ الله معها، سمعت الخطوات تغدو مسرعة، من خلف نافذتها الّتي تطلّ على الحارة، أدركت أن بعضهم بدأ يهرول إلى المسجد الأقصى لأداء الصّلاة هناك، فالمؤمنون والطّيّبون لا يزالون كالنّور المتوهّج في حضرة المدينة.

لا تزال التكبيرات تمرّ من تحت النّوافذ، والأقدام تسرع قبل إقامة الصّلاة، فأعمدة الكهرباء الّتي وصلت الحارات القريبة وبعض الأزقة تساعد المشّائين على الوصول دون حمل القناديل كالسّابق، إلّا (زقاق البوس) لم تصله إمدادات الكهرباء بعد، بقي مظلما كسواد الحياة في ناظريها.

أنصتت للأصوات الملائكية المنبعثة من المآذن، فهدّأت من روعها، وسرت في عروقها دماء الأمان، توضّأت، وصلّت الفجر، وبدأت الدّعاء إلى الله، فهي لا تقنط من رحمته.

من خلف عتمة الّليل وهدوئه، ودعاء المهموم وإيمانه، تبيّن أنّ رشيد وهو شاب في العشرين من عمره، يمرّ فجرًا من تحت نافذتها، يقف لدقائق قليلة بانتظار ابن عمّه القاطن في (الحوش) نفسه، في الزاوية المقابلة للنافذة، ينتظره ليذهبا معًا إلى الأقصى لأداء الصّلاة فيه.

وأثناء انتظاره له كان يسمع ذلك الصّوت الباكي فيتألم، ويتمنّى أن تطلب صاحبة الدّعاء منه المساعدة، وعلى الرّغم من ذلك، كان يفضّل الابتعاد ومواصلة السّير ببطء، فلا يحقّ له الوقوف تحت النّافذة، أو حتّى الاقتراب من الباب للاستفسار أو مدّ يد العون للباكية، ذلك من الأعراف والعادات الّتي تعّود عليها أبناء المدينة، فلو كان رشيد من مخاتير الحارات أو شيوخها، أو كان في عمر والده أو جدّه لاختلف الأمر كليّا، لطرق الباب واستأذن بالدّخول وتكلّم مع الزّوج ليصلح من حاله، فالكبار يحقّ لهم اتخاذ الإجراءات والتّدابير الّتي يرونها مناسبة، وتغيير مجريات أمور بيوت كثيرة من بيوت المدينة ما استطاعوا إليه سبيلا.

ظلّ الحال على ما عليه أشهرا عديدة، وكان دائم التساؤل في نفسه عن سبب سكوت تلك المرأة وعدم إعلام أهلها عن حال زوجها الثّمل، وما تعانيه من الألم، فلقد سمعت أذناه ما دار بين تهاني وزوجها رجب ذات ليلة، حينما رجع ثملًا مترنّحًا قبل أذان الفجر بدقائق، ممّا مهّد لرشيد سماع الآهانات والشّتائم والضّرب والتّوسل، لقد وضحت الصّورة في ذهنه بعد أن كانت مجهولة المعالم، خاف أن يفضي بما يسمع فيتّهم بالتّنصّت على حرمة البيوت وأعراضها، ممّا يدخل عائلته في متاهات (العطاوي) ورد الشّرف للبيوت وحرمتها. 

حُزنُ رشيدٍ وعطفه على تلك المرأة جعلاه يرقب المكان بشدّة قبل أن يتسلّل الدّعاء والبكاء من خلف النّافذة إلى أذنيه وقد مزج بحزن الكلمات والدّعاء، فصوتها الليلة يختلف عن صوتها في الليالي العابرة، فقد سمعها تدعو الله قائلة: 

(يا ربّ ارحم زوجي واشفه واغفر له يا غفّار) 

مضى رشيد في سبيله بعد اصطحاب ابن عمّه لأداء صلاة الفجر كالعادة، وعند الإياب وأثناء الاقتراب من بيت تهاني، سمع الشّابان صوت نسوة يندبن ويلطمن لموت رجب المفاجئ، كانت بلبلة وأصوات أم رجب وزوجته وبعض الجارات الّلواتي هرولن إلى البيت إثر الصّراخ المفاجئ، فلقد اختطف الموت رجبًا، وهو في ريعان شبابه؛ إثر تناوله كمية كبيرة من الكحول.

مضت أشهر طويلة، فقد الصّوت الملائكيّ المنبعث من خلف النّافذة، اشتاق رشيد إلى سماعه، قرّر أن يبحث عنه (فالأذن تعشق قبل العين أحيانا). على الرّغم من افتقاده لحبيبته الّتي زوّجت قبل أكثر من عام، لم يفصح رشيد عن حبّه السّابق، ولم تصارح عيونه تلك الحبيبة، أبقى السّر مدفونًا في قلبه، حتّى تكبر الصّبيّة التي تمشي ونور الصّباح إلى مدرستها أمام عينيه خارج أسوار البلدة كلّ يوم، وبعد ذلك، يدخل البيوت من أبوابها لطلب يدها، وفي الوقت ذاته يكون، قد أنهى دراسته الثّانوية في مدرسة (الرشيديّة)، وتعلّم بعض الّلغات والكلمات التي تعينه في عمله مرشدًا سياحيًّا وبائعًا مع والده الذي يمتلك متجرًا لبيع التّحف الخشبيّة والخزفيّة والفنيّة للسّياح الأجانب في سوق الخواجات.

لم يعد رشيد يسمع ذلك الصّوت المتألم الباكي، أو الصّوت المبتهل الشّاكي إلى الله المنبعث من خلف تلك النّافذة، وتساءل في داخله عن ذلك البيت الذي ترعرعت فيه تهاني حتّى أصبحت عروسًا، ورجعت إليه أرملة بعد أقل من عام، من يهديه إلى مكانها وعنوانها؟

لا بدّ وأن يخبر أمّه، حتّى تذهب لبيت الحاجّة أم رجب، بحجة السّؤال عنها بعد موت ابنها وعودة زوجته الأرملة إلى بيت أهلها. استجابت الأم لطلب ولدها، بعد محاولات عديدة لإقناعه بالعدول عن طلبه؛ فبرأيها أنّه لا شيء ينقصه حتّى يخطب أرملة. استفسرت عن عنوان أهل الأرملة الصّغيرة، وقرّرت أن تزورهم بعد أن انقضت أشهر العدّة منذ مدّة. 

استُقبلت أم رشيد بحفاوة، وتعرّفت على تهاني وأهلها، وأعجبت بجمالها وحديثها الّلبق، وإيمانها الكبير بالله وعدله وكرمه؛ ممّا خلق جوًا من الألفة والمحبة، نتج عنه  الشّروع في الحديث عن خطبتها لولدها رشيد.

 توجّه رشيد وأهله لطلب يدها، وبعد قراءة الفاتحة، استدعيت تهاني لتقديم القهوة للخاطب، رفع بصره إليها، ارتسمت الدّهشة في تقاسيم وجهه، وبرقت عيناه شوقًا، وهتف الحبّ في أعماقه ضاحكًا: يا الله، يا الله، إنّها الحبيبة.