• 26 كانون أول 2022
  • مقابلة خاصة

 القدس - أخبار البلد - من شدة الانسياق  مع النص الجميل حول القدس وحكاياتها لم يشعر القارئ انه وصل الى الحكاية الثانية عشر من قصص كتاب " عشاق المدينة" للكاتب "نزهة الرملاوي" والتي اصرت ان تستمر بنشر قصصها القصيرة في جريدة " أخبار البلد" المقدسية، ايمانا منها بحق القارئ العربي والمحلي ان يطلع على هذا الانتاج الادبي ، ونحن في " أخبار البلد" يسعدنا ان نستمر مع الاديبة عاشقة القدس في نشر حكاياتها.

 واليكم  الحكاية الجديدة  

عطر الماضي

للقدس عيون ترقب عشاقها وأبناءها أينما حلّوا، لا يحبطها الانتظار، ولا يهمّها طول المسافات ولا تقلّب الفصول، مدينتنا أنثى ليست كأي أنثى... تبقى على العهد لأوفيائها، عاشقة ولّادة للخير ومعاني القداسة، تزرع من نور شمسها أملا تتجلى في جذوره انتصارات الحياة، وتحتضن النجوم في سمائها، فتصنع منها عقود ياسمين تزين بها رقاب عشاقها، يشتمّون عطرها كلما هبّت نسائم الشوق لحضرتها...طلة مقدسية تطل من شرفاتها الخالدة، تتمايل دلالا في ليلها الذي يشع نورا من نجومها التي تتلألأ خلف مضاجع ألمها، أملًا بالنصر، وابتهاجًا بمواسم الوفاء، تجرّها خيولٌ عربية الملامح نحو الحرية...

لله درك مدينتنا! تحتبسين الألم وتزرعين الأمل في محطات حياتنا، تضمّيننا كأم تخاف على أبنائها من الشقاء والغربة، من لعنة قد تصبها السماء، كأمّ تخاف أن يتوه ابناؤها في درب الآلام، وطريق الواد، فتضيع التكبيرات ورنة الأجراس وزوايا المعتكفين للعشق الإلهي، عبر تراتيل دينية، وآيات قرآنية، وأناشيد روحانية، تسمو بها حناجر العشاق إلى الله. تخاف عليهم من استجداء لقمة عيش على رصيف الأثرياء، من الذل والقهر وغدر الغرباء. 

طلبت الجدة من حفيد أختها أحمد أن يأخذها برفقة أخته في جولة مقدسية، طالما حلمت أن تبهج أيامها الباقية بألوان المكان المتبقي في الذاكرة، وتشمّ شذى الورد المتبقي بين طيات الصفحات النائمة في كتبها القديمة، قبل ستة عقود ونيّف، حينما ترعرعت في أحياء القدس القديمة، قبل رحلة العذاب والترحال.

سألت فاطمة العجوز الشقيقين:

أهذه هي القدس؟؟

يا الله...هذا باب العامود، وهذا حيّ المصراره 

أهذا الباب الجديد؟؟

تغيّرت الأماكن كثيرا هنا.

أهؤلاء هم المستوطنون الأغراب الذين يعجّ بهم المكان؟

يا إلهي! أين غابت الوجوه التي تحمل التقاسيم العربية في غرب المدينة؟

نظر الحفيدان إليها نظرة استنكار، أدركت الجدة النظرة وأردفت قائلة: أنا لست مريضة زهايمر، أتذكّر كل تفاصيل حيّنا الذي عاش معي في غربتي، بيوته، أشجاره، سكانه وزوّاره، عراقته وفخامته وثراءه، فعندما غادرنا الحي إلى الأردن على أمل العودة، كنت في الخامسة عشرة من العمر، لم يتسنّ لنا الرجوع، وتزوجت من ابن عمتي في السعودية، وظلت روحي معلقة بحي الطالبية والأشقرية والقطمون والبلدة القديمة. نظرت الجدة فاطمة من نافذة السيارة التي سارت بها إلى غربي المدينة، وطلبت من أحمد التوقف أمام منزل والدها القديم في حي القطمون. صرخت في أعماقها، وعلت الصرخة، فاستوقفتها غصة في القلب المتوجع، وتدفقت الآهات والتساؤلات 

أين هم سادة الحي وأشرافه؟؟

أين غابت عصافيره وأحلام فتيانه وألعاب صغاره؟

متى رحلت ضحكات ليله ونقاشات مثقفيه وتعليلات الرجال واستقبالات النّسوة؟؟

أين الكلمات في مكتباته والفناجين التي كانت ترسم على الشفاه ألف بسمة وألف تحية لقاء؟؟ 

صرخت بصوت عال أين هم؟ وأين هو؟؟؟

سألوها: من هم يا جدّتي؟ ومن هو؟؟

أجابت: أحبائي وحيّنا...حبيبي بيتنا، ما زلت أذكر ذلك اليوم في الخامس من كانون الثاني عام ألف وتسعمئة وثمانية وأربعين، حينما نسفت عصابة (الهاغاناة) فندق سمير أميس في حيّ القطمون؛ ما أدى إلى احتراق البيوت وهدم الكثير من المنازل، وهاجموا معظم القنصليات العربية فيه، وقاموا بقطع الكهرباء عنه، مما أدى إلى التفكير جديا بمغادرة البيوت طلبًا للأمن والسلامة، على أمل العودة إثر المعارك التي كانت تدار بين العصابات والثوار العرب.

أتدرون أن نار الشّوق أتت على كل حب الدنيا في حجارته وأشجاره وسكانه وابتلعتهم احتراقا؟؟

أتدرون أن سماءه بكت الرحيل، وشمسه أحرقت فؤاد عشاقه؟؟

مسكينة أزهاره غفت على حائط النسيان ذابلة، لا ترتوي ماء الأغراب ولا يفوح أريجها فضاء الدخيل. 

نظرت روان إلى جدتها وسألتها:

أين هم؟ إلى أين مضوا؟؟

سالت الدموع على خدّي الجدة المتجعدين وقالت: 

(غُلبوا على أمرهم وهُجّروا من بيوتهم، منهم من مضى وضاع في بقاع الأرض لعل المدينة تجده بعد غياب، وبعضهم ما غابت شمس المدينة إلا وقد رافقها خلف قراميدها وأقبيتها وصلبانها وأهلتها، وطار على أجنحة فراشها نبضه المتيّم، لعله يجد قلبه بين قلوب العاشقين، فيفترش سحب الأمل في عودة).

يا الله! أعادت لي الأمكنة والبيت والشبابيك أريجًا من عطر الماضي ما زال منتشرا في الذاكرة، نعم إنه ذلك الفتى، حبي الأول. ما زالت ذكراه عالقة في وجداني، وصورته تقرب لي مسافات الغياب. ما زلت أذكر كيف كان يدنو من سور بيتنا ويختبئ خلفه؛ حتى لا يراه أحد رجالنا، فيضيع بين يديه بلا رحمة، وكيف كان يعاود القدوم بين الحين والآخر؛ ليراني من خلف النافذة فيلوح لي بمنديله المبلل بالعرق صيفًا، وبقبّعته السوداء شتاء. وكلما داست أقدامه حيّنا، امتدّت يده إلى الورد الجوري في بستان الجيران، في لحظة غفلة منهم، يقطفها، ويقذفها نحو نافذتي ضاحكًا ويلوذ بالفرار. وفي الصباح المدرسي تراقب عيوني تسلّله، وهو يحاول تسلق أسوار المدرسة، وبعدما يخرج من مدرسته ظهرًا، فينهره الحارس ويتوارى عن الأنظار.

غاب الصبيّ، وهُجّر مع من هجّروا، كموسم ربيع ما فتئ أن احترق شوقًا من الغياب، لم أره منذ ذلك الوقت، ضاع في شوارع المدينة ولم يأت كعادته كل مساء، ترك عيوني خلف نوافذ الأمل تنتظر

أرجوكم دعوني أدخل إلى بيتنا.

قالت روان لها: لن يسمحوا لك بالدخول.

الجدة: لماذا؟ ها هو مفتاح البيت استأمنني عليه أبي، فحافظت عليه من الضّياع، وها هي حجة ملكيّة البيت من عهد جدّي الباشا رحمه الله، أحضرتها من دار الوثائق العثمانية في إسطنبول. 

قالت روان: لا فائدة يا جدّتي، لقد جئتِ كما تعرفين سائحة إلى القدس، لن يسمحوا لك بالبقاء، ولن يسمحوا لك بالإقامة، ولن يسمحوا لك بدخول البيت، انظري حولك، يقيم في بيوت المدينة المهجرة آلاف المستوطنين، اعتبروها من أملاك الغائبين ولهم حق التصرف بها.

قالت الجدة: نحن لم نغب عن المدينة، هُجّرنا منها، سأظل على عتبة البيت واقفة لن أتحرك، طل رأس من نافذة العشق التي شهدت تساقط الجوريّ يوما ما. 

وقفت فاطمة بثبات أمام الباب، أرسلت بصقة حارة نحو ذلك الوجه الذي أخذ مكانها ووقفتها وأحلامها.. صرخت:

 (اخرج من بيتنا، من حيّنا) 

أمسك أحمد يدها وطلب منها المغادرة، نظرت إليه وقالت: 

مدينتنا تستحق الحب والتّضحية، تخوض حرب البقاء في زمن التهجير، أيّ هذا القلب الذي تحمله نازفًا متألما، ويبقى واقفًا في المواجهة؟