• 29 كانون أول 2024
  • مقابلة خاصة

 

 عمان - أخبار البلد -  كتب خليل احمد العسلي : 

 كان يجلس نصف جلسة على كرسي مرتفع بدون جوانب أمامه لوحة كبيرة قد احتلت القسم الأكبر من الحائط الأبيض  وكان يحمل ريشته  التي تلامس ذلك السطح الخشن لتخط ألوانه الزاهية خطوطا بحركات انسيابية تدل على الثقة والمهارة والخبرة للتحول تلك الخطوط الملونة الى زهرة الزنبق الوردية البديعة وساق اخضر وتحتها من جهة اليمين تبرز عدة وردات صغيرة ذات لون ابيض واصفر تشبه بشكل كبير ورد نبتة البابونج المعروف في بلادنا( لاحقا نصبت هذه اللوحة في بهو أحد أشهر وارقى الفنادق في عمان وهي تمثل شيئا من الطبيعة في الأردن )  

 التفت الفنان كمال ابو حلاوة صاحب جاليري طلة  اللويبدة مرحبا بذلك الضيف الذي إخترق عزلته في مرسمه الشخصي ورغم ذلك كان وجه باسما هادئا مرحبا ، تشعرك حفاوة استقباله بأنك تعرفه منذ عشرات السنين، هذا الترحيب كان بداية مشجعة لحوار استمر اكثر من اربع ساعات ولولا البرد العماني الفارس ربما استمر الحديث لأطول من ذلك .

 حديثه شيقا صريحا إلى أبعد الحدود قلما تجدها في أوساط الفنانين وحتى في أوساط العرب عامة ، حديثه يمزح بين فلسفة عميقة بمفهوم الحياة واقعية مجردة وقناعة مفرطة، وتحدي وإصرار وعناد على تحقيق ما يريد ، وتصالح مع الذات.

وقال لي ان هذه اللوحة التي يعمل عليها هي لاحد اكبر الفنادق في عمان والذي كان قد أنجز لهم عملا فنيا سابقا مميزا لا زال يزين جدران الفندق بفخر، وايضا تمثل هذه اللوحة الضخمة طبيعة الاردن.  

قال ماذا تشرب قبل أن تبدأ الحديث ؟!

 فكان الشاي هو الخيار في هذه الأجواء العمانية الكانونية الباردة اختلست نظرة لباقي غرف المعرض او الجاليري ، عندما سرنا نحو المطبخ كانت الموسيقى الهادئة والممزوجة بأصوات العصافير تعزف لحنا جميلا تنتشر في أنحاء الجاليري فهو يحب العمل بهذه الأجواء رغم انه يعمل بكل الظروف حتى وسط الناس في الشارع وفي الأماكن الأكثر اكتظاظا كما قال لاحقا .

 الغرف عبارة عن مراسم متواصلة مع بعضها البعض تمتلئ بعشرات اللوحات مختلفة الاحجام والالوان والحكايات، ولكن جميعها تتمحور حول المكان والإنسان وهذا سر وكينونة عمله الفني، هذا الكم الهائل من اللوحات ذات الأحجام المختلفة قال عنه الفنان كمال انه بسبب انه لا يتلف اي قطعة قماش من بواقي شد اللوحات فهو يبقيها لاستخدامها لاحقا في لوحة صغيرة كانت أو كبيرة حتى بقايا الألوان لا يتخلص منها ايضا بل ان يضعها على قطع القماش كأساس للوحات قادمة او كلوحات اصلية ، ويعلل ذلك بقوله هذه الألوان والقماش هي جهد أشخاص اعدوها تعبوا من اجل ان تصل الينا جاهزة ولهذا فإنه يحترم هذا الجهد ويحافظ عليه

 قلت له معلقا : هذا تفكير إبداعي وواقعي وبيئتي من الطراز الأول.

 ابتسم  ومرر اصابعه على لحيته الطويلة التي خطها القدرة بريشته باللون الأبيض  كما يخط هو الألوان على قطعة القماش ، قبل أن يقول : 

 هذا انا ….!

بدأ بإعداد الشاي في وعاء كبير ولم ينس أن يضع الميرمية في الماء قبل أن يضع أكياس الشاي وهذا يعني أن لديه معرفة تامة بأصول الشاي ففي الشتاء لا يمكن شرب الشاي بالنعناع لان طعمه يختلف كليا عن الشاي مع النعناع في الصيف ولهذا فإن الشاي لذيذ في الشتاء مع الميرمية الجبلية ،وعندنا في القدس وجبالها تنبت هذه النبتة الرائعة التي هذ جزء أساسي من هوية المكان وتاريخه ولهذا فهي تحارب بكل شراسة من قبل المحتل الذي سن القوانين التي  تعتبر قطف الميرمية والزعتر محرما حسب القانون الاسرائيلي ويعاقب كل من يمسك وهو يحمل الميرمية بالسجن لسنوات او غرامة عالية جدا .

 وأثناء إعداد الشاي قال الفنان ذو الشخصية المميزة أن سيرة حياته معقدة مركبة صقلت موهبته وشخصية حتى وصل الى مصافي الفنانين العرب الذين يشار لهم بالباب، ولهم بصمات لا يمكن تجاهلها في عالم الرسم والفن المتعدد، ويؤكد ان وصوله الى  الرسم لم يكن سهلا، حتى اسمه له حكاية تركت ندبات عميقة في مسيرة حياته 

 وبعد أن أعد الشاي في ذلك الوعاء التراثي توجه الى مرسمه وهناك بدا حديث متعدد ومتشعب كله فن وعبر. 

ويعرف عن الفنان كمال أبو حلاوة نشاطه الذي لا يتوقف سواء كان الفني أو الاجتماعي ( حيث كان أول من عمل ورشة رسم في السجون والإصلاح ، عمل مع ذوي الاحتياجات الخاصة،  مع مرضى السرطان مع مرضى التوحد  ) مما زاد من خبرته الفنية وعمق علاقته بالمجتمع .

 وعن ذلك قال الفنان بعد ان اشار الى اللوحة غير المكتملة امامه : 

- كلما تعلمت شيء جديد تجدني ارجع  الى اللوحة، كلما زادت خبرتي زاد تعلقي باللوحة ، فان أشعر أن اللوحة هي وطني ، ارجع إلى الفراشة واللون وابدأ بالعمل وبتلوين السطح ، الذي اشعر انه يشعر معي ، فهذه اللوحة اشعر انها مثل حبيتي، وهي مثل الطفل، وفي مرات اهجر اللوحة ، أي أن كل طقوس الحياة التي اقوم بها مع الكائن الحي، اقوم بها  مع اللوحة . اشعر ان هذا السطح هو عالمي ، انها الحياة .

 ويضيف في وصف علاقته المميزة مع لوحاته: 

 في الكثير من الاحيان اشعر بالخجل من لوحة رسمتها ، وعندما اجد من يمدحها اقول له خذها لانه يمكن ان امحوها  وابتداء من جديد ، فلا توجد عندي لوحة غالية ، هذا ما قد يفسره البعض بأنه شعور اناني فحتى لوحاته ليست غالية عليه !!

فقاطعته بالقول : 

 المعنى أنه لا توجد بينك وبين لوحاتك علاقة حب ؟!

لا ابدا كما قلت لك اتعامل معها بكل حنيه،  ولكن لا توجد حالة عشق معها  لأنه لو عشقت اللوحات لم غيرت من أسلوبي ولبقيت في إطار واحد وأسلوب واحد ، فأنا شغوف ان اكتشف كل جديد واتعلم كل التقنيات التي تساعدني على التعبير عن نفسي بشكل أفضل . فانا لست اسير اسلوب  او اسير عقليه واحده بل أنا أسير البحث مع المحافظة على ضرورة أن يكون عنصر الإنسان والمكان متواجد في كل أعمالي.

 فتح باب الجاليري وهو المرسم الثالث الذي يملكه بعد أن ترك الأول وكان اسمه مرسم اللويبدة واحرق الموسم الثاني بفعل فاعل والان الثالث جاليري طلة اللويبدة الذي يعمل منذ عام ٢٠١٠ .

  يفتح الفنان كمال ابو حلاوة الجاليري وكل إمكانياته أمام فئات المجتمع المختلفة، فلقد أقام العديد من المبادرات الإنسانية القريبة من اهتمامات المجتمع وهموم الإنسان مثل مبادرة قطرة حياة للتبرع بالدم الذي رافقها معرض تناول هذا المضمون والمعنى ٠ اضافة الى العديد من الورشات والدورات التدريبية التي يعود ريعها لمساعدة الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة والأطفال في المناطق النائية والأقل حظا وايضا الأطفال الأيتام في الملاجئ من خلال مبادرة فن وحياة .

فهذا نابع من ايمانه العميق بأن على الفنان أن يلعب دورا مهما في تنمية مجتمعه وتلمس احتياجاته ومد يد العون  ومساعدة الإنسان في التعبير عن مآسي  التي يعيشها . 

 ويشعر الفنان كمال أبو حلاوة بفخرأنه قام برسم لوحة في الشارع وطلب من الناس أن يكملوها وكانت اللوحة عن غزة حيث رسمها باللونين الأسود والرمادي وطلبت من الناس أن يضيفوا لها لمساتهم ورؤيتهم كيف سيكون عليه مستقبل غزة .  فخرجت لوحة غاية في التفاؤل طغى عليه اللون الاخضر والازرق والاحمر .

   قبل الانتهاء من آخر كأس من الشاي حيث توقفنا عن العد مطبقين القول التركي الماثول عن الشاي ( الشاي ما الشاي  وما أدراك  ما الشاي  اقلها ثلاثة أوسطها خمسة  ولا حد لاكثرها ) على ذمة  صديقي " انصار افرت"  مدير المركز الثقافي التركي  "يونس أمره"  في عمان.

 قال الفنان ابو حلاوة وكانه يريد ان يختم الحديث الذي طال :" من واجبي ان ابحث عن الألم واعرضه وفي نفس الوقت ابحث عن الامل في هذا الالم ، فكل داء يحتاج إلى الدواء ، انا  نرسم الالم ونعيش في الآلام  ونتحدث بالالام ، ولهذا ابحث عن الطاقة التي تجعلك لا تستسلم وسط هذا اليم من الآلام والمآسي ، وهذا واجب المثقف،، أنا كفنان وليس على أن لا اكرر المشهد الذي أراه يوميا وانما انا ابحث عن الترياق الذي يعالج فيه هذه الالم .

وهكذا انتهى اللقاء بهذه الصورة الايجابية قبل ان يعود الي لوحته الجميلة، تاركا إياه بهدوء في موسمه الخاص الذي يقضي فيه كل ساعات يومه قبل ان يعود الى بيته وعائلته مساءا وافترقنا ولا تزال الكثير من الأسئلة لم يجب عليها  الصديق الفنان كمال أبو حلاوة .