• 11 كانون الثاني 2025
  • مقابلة خاصة

 

بقلم : د. أسامة المجالي 

لديّ اهتمام كبير بالأدب الذي يتناول العهد العثماني في بلادنا؛ لكثرة التحامل، وسوء النية، والأحكام المسبقة، والعدائية المفرطة تجاه الأتراك والعثمانيين عموماً، والتي تغلف كثيراً من الأعمال التي تتناول هذه الفترة الصعبة من تاريخ منطقتنا. إلا أن  رواية "الوز المالح" لمجدي دعيبس، الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في العام ٢٠١٨، سارت على خط دقيق وذكي؛ فزمانها هو نهاية الحرب العالمية الأولى، ومكانها بلاد الشام، وأهميتها تنبع من تناولها لتاريخ هذه المنطقة الدموي والصاخب، والذي يمكننا بكل سهولة إسقاط أحداثه على الحاضر، فكأننا ما زلنا في نفس المكان والزمان الداميين العصيبين الحاسمين، عندما تقدمت جحافل جيش الحلفاء من مصر بقيادة الإنجليز لتحتل فلسطين وعلى رأسها إدموند اللنبي، وفي نفس الوقت تقدمت جحافل الجيوش العربية وقبائلها من الحجاز والأردن والعراق لمساندة الإنجليز لاحتلال بلاد الشام والعراق، وإبعاد العثمانيين وإشغالهم عن حربهم الطاحنة مع قوات الحلفاء من إنجليز وفرنسيين، ثم هزيمتهم وانسحابهم من هذه البلاد التي لم تعرف منذ ذلك الحين لا سلاماً ولا سكينة .

الرواية " الوزر المالح "، بمعنى الذنب المضاعف والمؤلم جدا، ربما تتناول أحداثا تتزامن مع الثورة العربية الكبرى التي قادها الشريف حسين، وقد نالت جائزة " كتارا " للرواية المنشورة في دورتها لعام ٢٠١٩، وهي جائزة مرموقة في العالم العربي، والروائي مجدي دعيبس من مواليد عام ١٩٦٨ بمدينة الحصن من أعمال محافظة إربد شمال الأردن، وعمل مهندساً للاتصالات في سلاح الجو الملكي الأردني، وقد بدأت مسيرته الأدبية منذ العام ٢٠١٠، وله عدة روايات منشورة: الوزر المالح، ٢٠١٨. حكايات الدرج، ٢٠١٩. أجراس القبّار، ٢٠٢٠. الحورانية، ٢٠٢٣. قلعة الدروز، ٢٠٢٢، وهي الجزء الثاني من ثلاثية الثورات، وتتناول أحداثاً ترتبط بالثورة السورية الكبرى ضد الفرنسيين. وأخيرا الجزء الثالث من ثلاثية الثورات العربية الكبرى "السيح" ،2025، والتي تتناول الثورة الفلسطينية الكبرى في العام ١٩٣٦  .وله أيضاً عدة مجموعات قصصية ومساهمات أدبية مميزة .

لا بد في البداية من الإشارة إلى اللغة العالية والجميلة التي صيغت بها الرواية، وإلى التناسق الموضوعي والسرد السلس، والتعبير بوضوح ودون مواربة عن أفكار الكاتب بلغة غنية مليئة بالإثارة أحياناً والدفء أحياناً أخرى، بأسلوب يجذب القارئ في كل صفحات الرواية، التي تبدأ من قرية أردنية وادعة على أحد سفوح جبال عجلون، وحتى منتهاها بمدينة " كِلّس " في جنوب تركيا. 

الحبّ والحرب، الشجاعة والجبن، الإخلاص والخيانة، مع العجز والشرف والاستغلال والعنجهية، تتصارع كلها في جنبات هذه الرواية، التي تتوزع فيها البطولة بين قادة الجيوش وضباطها وجنودها، ومواطنين عاديين وفلاحين مقموعين بسطاء، يعيشون في قراهم هادئين وادعين، ثم تأتي الحرب إلى أبوابهم فتقتلعهم من بيوتهم وحياتهم وعالمهم، وتلقي بهم في مجاهل العالم وطاحونته العملاقة دونما رحمة.

الثيمة الرئيسة للرواية تدور حول الصراع العثماني الإنجليزي على هذه المنطقة، وزمانها الظاهر هو نهاية الحرب العالمية الأولى، ويتبادل الرواة القص في فصول الرواية المتعددة كلٌ بلسانه من الجنرال الإنجليزي اللنبي إلى الضابط التركي سليم والمختار العربي أنور والجاويش مصطفى والفتاة العربية الجميلة مريم وسواهم ، يدير الراوي بذكاء سردهم للأحداث تاركاً كلاً منهم يعبّر عن نفسه ومنطلقاته وحججه، مما يقدّم أرضية متماسكة ودرامية .

حيث يدور الصراع العنيف بشقّيه العثماني والإنجليزي على الأرض العربية المستباحة من كلا الطرفين، بينما صاحب الدار مستضعف رهين بيد القوتين المتحاربتين، وما زواج الضابط التركي سليم من مريم إلا مظهر واضح لهذا الاستضعاف وقلّة الحيلة؛ لأنه تم على قاعدة غير متكافئة بمقايضة عدم أخذ أخ الفتاة للتجنيد القسري "السفربرلك"، مقابل تزويج الفتاة من الضابط، وهذا شيء غير مقبول في العرف الشعبي، ويشي بالعيب والذل، وهذا ما لمسناه واضحاً بالحوار ما بين عادل شقيق مريم والشباب بالقرية عندما تعرضوا له، وأخبروه أنه لا يحق له التمرجل عليهم حتى يخلص أخته من "العصمللي".

ومع هذا، لا نرى في الرواية أي إشارة لسعي شقيقها لتخليص أخته من ذلك الزواج القسري، ليمضي العصمللي وقد أيقن بهزيمة الجيش العثماني، وخوفه من التعرض لانتقام الأهالي العرب والجيش الإنجليزي المعادي، فقد قرر الضابط الفارس أن يخلع لباسه العسكري، ويفرّ من الجيش، مصطحباً "زوجته" برحلة محفوفة بالمخاطر إلى بلدته "كلّس" في جنوب تركيا .

لا تتحدث الرواية عن الأشياء بشكل مباشر، ولا تحاول أن تحاكم أحداً، وتنتقل بعذوبة ما بين الأحداث التي وإن بدت من الماضي إلا أن الحاضر ما زال ساطعاً أمامنا يظهر دون لبس؛ كيف أن أبناء الأرض العرب الأصليين ما زالوا مضطهدين، وبلا حول ولا قوة أمام عدوتهم إسرائيل من جهة، ومن جهة أخرى أبناء جلدتهم العرب في بلاد الشام، الذين يضطهدونهم أيضا، ويسومونهم سوء العذاب؛ لخدمة مستعمرين قدامى ومعاصرين معاً، ثم يأتي العصمللي من هناك كي ينقذ البلاد والعباد في مشهد "مسرحي باهر"، ولكننا في النهاية، ما زلنا نخشى أن يأخذ ابنتنا  العزيزة، والتي لا شكّ يحبها جداً جداً رهينة، ثم يسئ إليها رغم حبه لها دون أن يحميها أهل قريتها وإخوتها وعائلتها ويقحمها في معاركه وقراراته، لينتهي بها الحال صريعة الحمّى والمرض والموت في النهاية .