• 11 حزيران 2021
  • ثقافيات


بقلم: كايد هاشم


كنت قبل فترة أعيد قراءة الدّيوان اليتيم لأُستاذنا الراحل العلامة الدكتور ناصر الدّين الأسد (١٩٢٢-٢٠١٥) "هَمسٌ وبَوح"، وهو ديوان صغير بحجمه (182 صفحة من القطع المتوسط) نشرته المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت  ٢٠٠٧، ويشتمل الديوان على طائفة من بواكير شعره في مرحلة سمّاها الشاعر نفسه "ما قبل سنّ العشرين"، وجعل هذا الاسم عنوانًا للقسم الذي استهلّ به الديوان. وهناك قصائد منظومة خلال أعوام دراسته في الكليّة العربيّة بالقدس (1940-1942). وخطر لي أنّ تلك البواكير قد تكون مدخلاً مناسبًا للحديث عن صلته الرُّوحيّة والوجدانيّة ببيت المقدس؛ ومن ثمّ صلته الدراسيّة والعلميّة، التي أينعت ثمراتها في عددٍ من مؤلّفاته المعروفة عن أدباء بيت المقدس مثل روحي الخالدي رائد البحث التاريخي في فلسطين، وخليل بيدس رائد القصة العربية الحديثة في فلسطين، وأستاذه اسحق موسى الحسيني ابن القدس وعاشقها الأزلي، وعن الاتجاهات الأدبية والشعر الحديث في فلسطين والأردن، وكلاهما يشكلان قلب الأسد العاشق لضفتي الأردن ما عاش وما ترك من أثر في هذه الحياة.
شرُفت بمعرفة العلامة الأسد - رحمه الله - عن كثب إبان عملي مدّة أربعة أعوام (1989-1992) في المجمع الملكيّ لبحوث الحضارة الإسلاميّة (مؤسّسة آل البيت)، وقد كان رئيسه، وكنت أستشعر في أحاديثه عندما يتطرق الحديث إلى القدس وفلسطين دون غيرهما من محطّات حياته، والمدن والأماكن التي عاش فيها، أنَّ لهذا الحديث وذكرياته على هذه الأرض العربية وتحت تلك السماء وقع خاصّ في نفسه، تختلجُ به، وسرعان ما يظهر على قَسَمات وجهه الوقورة كأطيافٍ باسمة يخالطها شيءٌ من شفيف الحزن، الذي يمتزج فيه كبرياء العِشق بانكسار الأمل؛ وعلى نبرات صوته بشيء من تهدجٍ يتفلَّت من غصّة، ويجْهَد بين فرح الذكرى وألم الفراق والمآل للقيا أثير يردِّد على أمواجه ذِكرى عهدٍ كان. أما عيناه فتلتمعان ببريق خاطف تُوغِل به النظرات في الأفق البعيد، ليفصح عن حال مَنْ يداري دمعًا ترقرق لمّا استبدَّ به الشوق، فالقدس أول التكوين الثقافي، ومبتدأ التفتح على الحياة، ومبتدأ العشق لتراث الأمة وذخائرها الروحية والحضارية.
وأنت تسمع بعد ذلك حديثه عن القدس، فيأتيك مع لفظه الفصيح السلسال كأنه تسبيح يتعالى، وترنيم يتهادى في فضاءٍ متوهِّج بذكريات ومشاعر ووجوه ومعالم وأصوات. وتكاد تطوف معه في القدس وتستنشق نسائمها وتكلِّم أُناسها، لولا السحابة السوداء التي تداهم الحديث حين يُذكَر غاصبوها، وتفرّق كلمة أبناء العروبة، وأسرٍ طال ... لكنّه ما بدَّد الآمال.
بمثل الإيقاع الفائر الشجي الذي لقصيدته (يا طير)، وتاريخها 1940، هو حديث الدكتور الأسد عن القدس وذكريات شبابه المتوقد في المشاركة الوطنية القومية والتعبير عن هموم وطن يستباح . وفي مطلع هذه القصيدة يقول:
يا طير ما لكَ تُسْتباح
                   وإلامَ تُثْخَنُ بالجِراحْ
حَبسوكَ في القفص المُهيـ
                  ـنِ وسَدَّدوا فيك الرِّماح


والقدس ليست الموضوع المباشر للقصيدة، وإنما موضوعها الشاعر نفسه، يُخاطب فيها ذاته بعد أن كان في أثناء دراسته قد أُنذر من الاستمرار في المشاركة بأنشطة خارج الكلية والدراسة فيها، لكنه يتماهى بالمكان القدسي مبنىً ومعنى، وبالأحرى تذوب روحه الشاعرة حزناً على ذات تماهت بالقدس عشقًا وشجنًا .. وهي قصيدة بعد كلّ هذه السنين تتجاوز آنيتها لتغدو صفحة خالدة من صفحات الشوق والحنين والوفاء حيث يستظلّ العشاق الكبار ممن طالَ بهم البُعد عن القدس أقيائها وظلالها الوارفة.