• 28 حزيران 2021
  • ثقافيات

 

بقلم : تحسين يقين

يرتقي الفن الملتزم دوما بالإنسانية ليس في التعبير فقط، أو التسجيل، بل بالوجود النبيل للضمير الإنساني تجاه نفسه أولا، ليبعث خلال ذلك رسالة غاية في التبل الإنساني. هذا ما تبدعه اليوم الفنانة الفلسطينية شيماء عصمت، محاولة اجتراح إبداع إيقوني، ينضم إلى الرموز الفلسطينية قديما وحديثا، ليس ابتداء بطائر الفينيق، وليس انتهاء بحنظلة.

شيماء التي شهدت حياة غزة، بكل جمالها وكل آلامها، تلوذ بالإنسان داخلها، لتبقى وتستمر، باعثة رسالة إنسانية لكل العالم.

"مشاعر متنوعة، ما بين الاطمئنان على الآخرين هنا، وفي الحارات والأمكنة الأخرى؛ فهنا الآن نحن إزاء الحياة نفسها، لكن لا اطمئنان، فحتى اطمئنان الآخرين بعيدا، يثير القلق، فمعنى ذلك، أن احتمال الاختفاء ممكن". وأن تعيش الحرب لحظة بلحظة، تعنى أنها دائمة الحدوث حتى لو تقف القصف أحيانا، لأنه سيعود، وحتى مع الهدن، فليس هناك ضمان ألا يعود، لذلك فإما أن يظل الانسان متوترا، أو ينطلق، والكلام سهل، لكن بالنسبة للإنسان في الحرب المسألة أمر آخر..

الفنانة إنسانة أيضا، معرفة الأخبار لحظة بلحظة، من وسائل الإعلام ومن وسائل التواصل الاجتماعي، لحظية البث، ومن شهادات الناس التي تنتقل أيضا في غزة الكبيرة والصغيرة أيضا. ترى شيماء عصمت أن الجماليات تظل موجودة في كل الظروف، حتى في الحروب، بل يتعزز عمقها، لأن الجمال يتعلق بالبشر، حتى في ظل قبح الغزاة. وسيظل دوما هناك وقت ومجال لرؤية الجمال، من خلال نفوس تتأمل وتتصوف وتتماهى مع البيئة وجماداتها.

كان الكائن الأزرق مع شيماء عصمت من زمن، ربما من عامين، لكن الحرب بثت الحيوية فيه، فعاد طازجا؛ فهذا الكائن الهزيل،  قويّ بوعيه وشعوره العميق، عيونه واسعة رغم الذبول، وهو قادر على استيعاب ما حوله. صحيح نهشته الحرب، صحيح فمه ممسوح لكن عيونه تكفي للتعبير. أما لماذا الأزرق، فلكونه يحملنا نحو السماء، الى الخالق، بما يمنحنا من آمال، وأيضا لتعبيره عن الحزن العميق، فكأننا إزاء ازدواجية ما. وبالطبع كفتاة على البحر، وتحت السماء، فإن كلاهما البحر والسماء يسكناني.

وهنا، لم تكد الحرب تهدأ، حتى بدأنا نراه، ويتكرر ظهوره، في صفحة الفنانة الغزية شيماء عصمت، وكأنه يأخذنا في جولة، ليرينا ما كان ويكون، ربما ليشهدنا او يقوينا؛ فعند الركام وعليه، نراه يجلس يقف، بملامحه التي ألفناها، وربما أحببناها، فهو متضامن معنا، ونحن متضامنون معه، مع أنفسنا.

فهو يطل أمامه بشكل جانبي، فوق الركام، يستشعر الألم كله، لكن بصبر الأنبياء، كأنه ينتظر الخلاص الذي يراه قادما، وكأنه يطلب منا أن نكون شاهدين، كذلك أن نظل أقوياء برغم الألم. وهو يطل من النافذة مع رمزية طبق الفضائيات، للإعلام والتوثيق أيضا، وهو يتلثم بالكوفية، رافعا إشارة النصر. وهو يحمل وردة الصبار..

أبدعت فعلا شيماء عصمت في التعبير عن هذه الحالة، المتعلقة بمكانها وبشرها، خالقة "حنظلة" آخر، بالرغم من تناسي العالم ألمه، فإن الكائن الأزرق معجزة فعلا، فهو قوي بنفسه، فما تبقى من جسد في ظل هذا الهزل الذي يصيب الجسد، فإن الروح قوية، بذلك النبل العظيم، بالاحتفاظ بإرادة الانسان ومستقبله. لقد دخل كائن الفنانة الأزرق قلوبنا وعقولنا، أصبح معبرا عنا، نحن منه وهو منا، هو كائن قريب حميم، هو الواعي بمحبة لا بكره ولا حقد ولا عقد نفسية، نقوى به، نحبه ويحبنا.

هو كائن أزرق، وكائنة زرقاء أيضا، حيث راحت شيماء عصمت تنوع على اللحن الرئيس، مضمونا، من حيث شراكة إنسانية للإنسان والإنسانة في فلسطين، وشكلا من خلال اسكتشات الأبيض والأسود.

تنتمي الفنانة عصمت لحي الدرج العريق، تفتحت عيونها على جمال المعمار المملوكي والعثماني، وأقامت في حي الشيخ رضوان المكتظ،  قلب المدينة الدافئ، وكان البحر مكونا إنسانيا وجماليا، وكذلك السماء في ظل حصار الأرض. ولعل الأزرق هنا هو تلك الحياة أيضا ما بين زرقة الماء والسماء.

"أصور دائما..فقد تختفي المشاهد بسبب قصف الاحتلال". تلك مأساة فعلا أن تنظر لمكان أمامك يختفي خلال ثوان، لذلك فالفنانة تقوم بتخزين بصري لما حولها، فتريد تخليد ما كان ويكون.

تصيب مفردة "فنانة" شيماء برجفة، كون الفن مسؤولية كبرى، فلا يتحقق المعنى بسهولة، فعلى الفنان/ة تقديم اشتراطات الوصف. شيماء فنانة مثقفة، درست الفنون في غزة، تحمل شهادة البكالوريوس.

 وشيماء ذات لغة جزلة، كتابة وحديثا، تعرف طريقها، تركز على الفن، وتتمنى لو تتفرغ فعلا للرسم. شاركت في معارض فنية، وترجو المشاركة أكثر.

لغة الفنانة عصمت قوية واثقة، نقوى بها، بمضامينها الانسانية وبقسط وافر من الوعي والأمل، فهي ما أن تبدأ، حتى تتدفق، فكأنها أرواح كثيرة لا روح واحدة. لعله قادم من قربها من الناس.

"كائنة بلكونية" هكذا تصف نفسها، لعل الكائنة هنا تجد من البلكون والنوافذ مجالا دائما في الأفق الواسع، ما دام هذا البحر عظيم، وما دامت السماء، ولعل غزة هي هذا الخليط الإنساني الفريد.

"غزة مليانة مفاجآت، مفقودون لكن مولودون..سجينة في الهواء الطلق..الظروف جنت على غزة..غزة صدر يحمي ويدافع، كما هو كنعان من قبل كان محبا للأرض، مدافعا عنها، لا غازيا.

"غزة منطقة توتر ..منطقة عدوان مستمر.. غزة، تنكرنا لكن تحمينا..أتمنى أن أسافر وأرجع الى غزة ..انها أكبر حضن ..".

هي إذن نتاج هذا الشعور والفكر والمكان، وهي جزء أصيل عضوي وموضوعي من كل ذلك، وتود دوما أن تحول ما في الخارج والداخل معا الى رسائل بصرية في ثوب جمالي، يثير الفكر والإنسانية والجمال.

نظن أن فكرة الكائن الأزرق، وعمق حضوره الآن في فلسطين، هو ميلاد أصيل لفنانة محترفة في قادم الأيام، وميلاد أيقونة فنية فلسطينية، تفاجئنا كما تفاجئنا غزة دوما، بحرها والسماء وأرض زهورها ودخانها.

إنه انتصار للإنسان، وتقويته، ولعل هذا المنبر وغيره، يأخذ رسالة شيماء عصمت الى مبتغاها في الانتصار للذات، واللوذ بها، بل والاعتماد على الذات.

إنه الكائن الأزرق الوجودي الجمالي والوطني بكل تجلياته، ولعلنا هنا نتأمل في قسماته، حيث أن تأملنا في سحنته ستأخذنا الى أنفسنا.

رسالة سامية فرديا وجماليا، تعبر بصدق عن إرادة البشر تحت القصف.

وهكذا فإن شيماء من فلسطين تشق طريقها بقوة وجمال..

لعل هناك من يلتفت ويتأمل ويقدر هنا بشكل خاص، لان رسالتها رسالتنا جميعا.