• 27 أيلول 2021
  • ثقافيات

 

بقلم : محمود شقير

 

بضمير الغائب ومن خلال الراوي العليم حينًا وعبر تعدّد الرواة حينًا آخر يكتب محمد علي طه رواية شاملة هدفها تعرية ممارسات الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين والعرب، وفي الوقت نفسه نقد السلبيات التي نشأت وتفاقمت في المدن والبلدات الفلسطينية داخل الخط الأخضر، والدعوة للتخلص منها عبر النهوض برسالة تربوية أخلاقية تجعل من الارتباط بالأرض المهددة بالمصادرة والاستيطان هدفًا من أسمى الأهداف، وتجعل من السمو الأخلاقي والتكاتف وسيلة لردع عصابات الإجرام التي تلزم الناس بدفع الخاوات، ولوقف جرائم القتل التي يستفحل خطرها في أوساطهم جراء عمليات الإجرام المنظم أو   الخلافات العائلية، أو قتل النساء بحجة الدفاع عن شرف العائلة.

ولكي يمرر الكاتب رسائله  السياسية والاجتماعية والتربوية إلى وعي القراء فإنه يستعين بلغة السرد المحكم الرشيق الذي لا يخلو من متعة، ومن قفشات ظريفة نابعة من سياق السرد نفسه، ومن استحضار شخصيات من البيئة المستهدفة بالسرد.

وقد نجح الكاتب حين تداخل في سرده الهم الخاص مع الشأن العام بحيث يكمل أحدهما الآخر أو ينبثق منه من دون لبس أو افتعال، فنلحظ أن الحفاظ على الأرض من خطر المصادرة والاستيطان يشكل همًّا من هموم أحمد؛ أحد الشخصيات الرئيسة في الرواية، مثلما تؤرقه المتاجرة بالسلاح وبالمخدرات التي يجري بيعها علنًا من دون أن يتصدى أحد لهؤلاء الذين يعيثون فسادًا في البلدة ويعتدون على أمن الناس.

تنداح الأحداث والتفاصيل من خلال أحمد المثقف الجامعي الذي عاد إلى الأرض يزرعها ويحرسها، وهو يأخذنا خلال تداعياته المتنوّعة إلى عالم السياسة فيلعن اتفاق أوسلو، وإلى عالم المعتقدات الشعبية فيرفض الخرافي وغير العقلاني منها، وهو المؤمن العلماني الذي يقف على مسافة واحدة من الإسلاميين والقوميين والشيوعيين، ويناقش المتدينين في بعض قضايا الدين فيتهمونه بالإلحاد ويتهمهم بالجهل، هو كذلك الزوج الودود الذي يردّ بمودة وحب على هاتف زوجته شادية؛ المشتاقة إليه وهو بعيد منها يحرس في الليل حقل البطيخ. 

2

بعد أن يبلّغ أحمد عن جثة القتيلة يافا أهاروني؛ وبعد وصول الضابط أبراهام وزميله أوري إلى مكان الجريمة، تدخل الرواية منعطفًا نوعيًّا جديدًا عبر حبكة بالغة التشويق، ويتمّ اعتقال أحمد والتحقيق معه بتهمة قتل الطالبة الجامعية اليهودية. وبعد اعتقال دام فترة من الوقت مصحوب بالتعذيب والتهديد بإحضار زوجته شادية وغير ذلك من ممارسات وحشية يطلق القاضي سراحه بشروط، وتكون الرواية قد قطعت شوطًا غير قليل في كشف ما يعانيه الفلسطينيون الذين بقوا في وطنهم من قمع وإساءات وتمييز على أيدي الشرطة الإسرائيلية والحكم الإسرائيلي بوجه عام.

وللتعبير عن ذلك على نحو أشمل تغوص الرواية في تفاصيل السياسة اليومية بأسلوب لا ينقصه الإقناع، حيث تبرز معاناة الشعب الفلسطيني من الاحتلال، وحيث يبرز الغبن جراء الاستيلاء على الأرض والبيوت، وعلى البحر والهواء، وحيث يستمتع اليهود القادمون من كل أصقاع الدنيا بطقس البلاد وبجمال الطبيعة فيها وبكل ما تتصف به من مزايا، ويشقى الفلسطينيون أصحاب البلاد الأصليون.

وكي لا يبدو الكاتب متحيزًا لبني قومه، فإنه يعطي الشخصيات اليهودية في الرواية الحق في إبداء وجهات نظرها تجاه الفلسطينيين وتجاه الصراع وما نتج عنه من حروب ومجازر وقتل وتشريد، فتبدو وجهات النظر هذه متهافتة لا تستقيم مع التفكير الصحيح، ولا مع النزوع الإنساني إلى نشدان الحق والخير والجمال، وتكون الفتاة يافا التي اكتشفت بعض جوانب الحقيقة جرّاء علاقة الحب التي ربطتها بالفلسطيني سمير، وجعلتها تنفر من المستوطن المتطرف نفتالي؛ هي الرمز الذي يشكل محور الصراع، وتكون هي ضحية المستوطن الذي هاله انحياز يافا ضده إلى جانب الفلسطيني المدافع عن الحق والحقيقة.

والسؤال: كيف استطاعت يافا أن تتخلّص بسهولة من سموم الدعاية الصهيونية ضد العرب الفلسطينيين، فوافقت ببساطة ومن دون تعقيدات على إقامة علاقة عاطفية مع سمير حتى قبل أن يقنعها بعدالة القضية الفلسطينية؟! وكيف تمكن سمير خلال فترة قصيرة من محو ركام هائل من آثار التربية العنصرية؟! نعم؛ كيف وهي ابنة ضابط صهيوني متقاعد سبق له أن خاض حروبًا ضد الفلسطينيين والعرب وقتل أعدادًا غير قليلة منهم؟! طبعًا، وكما ورد في الرواية، فقد ظلت يافا ترى بأن "يوم استقلال دولة إسرائيل" هو "عيد الحرية، والاستقلال من الاستعمار الانكليزي، وعودة اليهود إلى وطنهم التاريخي"، متجاهلة نكبة الشعب الفلسطيني التي ما زلنا نعاني منها حتى الآن.

3

يمكن القول إن هذه الرواية بما تضمّنته من جدل فكري وسياسي قادرة على توجيه رسائل سياسية عن رفض الاستيطان والحق في مقاومة الاحتلال إلى الجمهور اليهودي إذا ما تمّت ترجمتها إلى اللغة العبرية؛ وقد تسهم في إقناع قسم من هذا الجمهور بما تضمّنته من رسائل أو بشيء منها، برغم صعوبة ذلك جراء تغلغل الفكر الصهيوني في وعي الإسرائيليين؛ مثلما هي حال يافا نفسها التي اقتنعت بشيء من الحقيقة وغابت عن وعيها أشياء، وهنا يبدو لي أن الرواية قد احتفت بيافا أكثر مما ينبغي وأكثر مما يحتمله واقع الحال.

ولعلّ الشرح المستفيض والرغبة في قول أشياء كثيرة على لسان كلٍّ من أحمد وسمير وأمّهما، والإفصاح عن الدلالة التي تنطوي عليها شخصية يافا بوصفها علامة على المستقبل وطريقًا إلى الحلم قد حوّلها إلى فكرة وإلى رمز حينًا، وإلى امرأة من لحم ودم حينًا آخر، وذلك ما كشفت عنه مذكراتها التي وردت في نهاية الرواية، وأوضحت حقيقة كرهها لنفتالي المستوطن المتطرف الذي يسعى إلى طرد الفلسطينيين من وطنهم، وإلى رفضها للاستيطان، وإلى مساندة والدها؛ الجنرال المتقاعد، في تأييده للانفصال عن الفلسطينيين المقيمين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وهذه أمور ليست قليلة بأيّ حال، لكنها لا تحسم جوهر الصراع.

هذه رواية جميلة متميزة؛ كل التقدير للأديب محمد على طه.