• 6 تشرين أول 2021
  • ثقافيات

 

بقلم: رامي أبو شهاب

ربما لا تبدو الأمكنة سوى ذلك الحيز الذي لم نختر أن نوجد فيه بإرادتنا، ربما هي جزء من تكوين الذات التي يخترعها الآخرون لنا ـ كما يقول إدوارد سعيد في كتابه «خارج المكان» ـ لاسيما حين يصف شخصيته التي لم يخترعها، وما صحبها من عطب على صعيد الاسم والهوية والثقافة. هكذا يبدو المكان خارج الذات، فهو الذي نطل منه على ذواتنا، فلا نجد غير أننا عالقون فيه، أو لعلنا نتطلع إلى أمكنة أخرى، بالتوازي مع حنين مرضي للمكان الأصل.
هكذا يبقى المكان مشكلاً ثقافياً في المقام الأول، ما يذكرنا بما عبر عنه الفيلسوف غاستون باشلار حين حمل على الفلاسفة الذين انشغلوا بأسئلة الكون على حساب جزء أصغر، ونعني «البيت» إذ عدّ هذا النهج مصدراً من مصادر عدم التقدير لمعنى البيت، كون هؤلاء الفلاسفة توجهوا للبعيد، وتناسوا فضاء راحتهم الحميمي. والبيت لا يعني سوى ذلك المكان الذي نألفه، ونشعر فيه بالراحة والحماية، ولكن حين يمسي فاسداً فإنه يستحيل إلى ذلك المكان الموحش، أو تلك الأنا التي لا تحمي الأنا، ولعل ذكريات المبعد عن وطنه قبل أن يقرر الرحيل، ستبقى عالقة بروح المكان، فيسعى لاستعادة تثبيتات السعادة من خلال التذكر كما يصف غاستون باشلار.
في رواية ذائعة الصيت للكاتب المصري صبري موسى بعنوان «فساد الأمكنة» – أدين له بعنوان هذا المقال – يذكر ما كان من صور إفساد الأمكنة، ومن ذلك شخصية الوالي الذي أفسد الفضاءات، ولعل ذلك كناية عن كيف للأمكنة أن تُستلب بما في أرواح ساكنيها، وهكذا يفتقد الإنسان شيئاً فشيئاً حميمية المكان الذي أمسى مفارقاً للسعادة كما أشار غاستون باشلار. كيف يمكن للأمكنة أن تفسد؟ وكيف يمكن أن نتعامل مع هذه الصيغة؟ هل تصبح هوياتنا جزءاً من فساد الأمكنة، وكيف يمكن أن نرى المكان، وقد بات فائضاً عن الرغبة، مع أنه يعدّ الأكثر أهمية في تشكيل الوجود الأول، حيث كان النفي من المكان الأول نموذجاً للعقاب الإلهي، فكان الهبوط على الأرض.. وكأن المكان بات جزءاً أو صورة من الخطيئة الأولى، وربما يكون وجود الإنسان في مكان جزءاً من خطيئة ما ارتكبها، أو ربما يدفع الثمن لقاء تعلقه بمكان ما.. هكذا تبدو الأمكنة مرغوبة أو مرفوضة، أزلية أو طارئة، أو ربما تمسي جسراً لوجهة نهائية كما هو البحر، والحدود، كل ذلك لقاء معانقة وجهة نهائية ربما يجد البعض فيها حلماً يعوضهم عن كوابيس أوطانهم، أو ربما تتحول الوجهة إلى كابوس لا خلاص منه، وفي المقابل هناك من يتشبثون بالمكان، ويقامون من أجله، ولكن في النهاية يسرقه الآخرون.
هناك من يرى أن الأمكنة تنهض على وضع طباقي يحدده التمايز الحضاري، حيث الشمال يتقدم على الجنوب، والغرب يتفوق على الشرق.. وهذا يأتي في نسق يبدو غير قابل للتفسير، سوى إنه يرتبط بمعضلات فلسفية عميقة ناقشها هيل في مشروعه الفلسفي. إن العالم يتعرض لمعادلة التكوين الديمغرافي، لأن أمكنة اللاجئين التي أتوا منها تعرضت للفساد؛ لذلك يبحث الإنسان عن مكان أقل فساداً، أو ربما فضاءً ينعم فيه بالحرية، أو الاحترام أو التقدير، مع شيء من الكرامة، بيد أنه لم تتوقف محاولات إفساد الأوطان، ليصبح الإنسان جزءاً من معادلة كونية، حيث الهجرة سواء من لدن من يتوق للهجرة إلى الغرب، على الرغم من أنه يعاديه أيديولوجياً، وهناك من يراه الفردوس، ومع ذلك يبقى الغرب وجهة الكل، فأشد المهاجرين رغبة بالغرب ينتمون إلى التيارات الدينية، مع أنهم يهاجرون من دار الإيمان إلى دار الكفر، ولكنهم حقيقة يهاجرون من دار القهر إلى دار الحرية، أو من دار الظلم إلى دار العدل، وهناك من يتطلعون لعالم أرحب من قيود مجتمعات تقتلها التقاليد، أو تقتل الفردية فينا، وفي كلا الحالتين يبدو الغرب الخلاص، كلا الفئتين ستخضع في المكان لتجربة فلسفة قيم الحرية، فتبرز قيمة التعبير التي حُرموا منها في أوطانهم التي غابت عنها شمس الحرية، ولكن هناك من يُفسد أمكنة الآخر، وهناك من يصلح.

يرتبط المكان دوماً باختلاق مفهوم الوطن، ذلك المُتخيل المبني على قوميات طرأت في القرون الأخيرة، وهو ما دعاه بندكت أندرسون بالجماعات المتخيلة، ليمسي الوطن الحقيقة أو الأكذوبة، أو ذلك الجزء الوظيفي، الذي تطالبنا به السلطة عند المسؤوليات، وتتناساه عند الحقوق، حيث ينبغي للفرد أن يتحول إلى مسنن في آلة الوطن الذي لم ندرك بعد ماهيته، وحين يطالب الفرد بحقوقه… عليه أن يتناسى ذاته، وأن يذوب في الكيان الهلامي، فهناك على الدوام من يختزل الوطن بذاته ليمسي قطاعاً يضم كائنات يجري توظيفها لتكون وقوداً لرفاهية الآخرين، ومع ذلك يبقى المكان هو المكان نقياً، لا يحمل وزر هذا التشوّه.
وهكذا يمكن أن يُقرأ المكان في سياقات ثقافية لا يمكن أن تُحلل بمعزل عن مفاهيم التعريف، كما الأصل والمرجعية والولاء والطبقة والدين والنخبة، وما إلى ذلك من تصنيفات، وكلما أمعنا النظر سنجد أن الوطن يتآكل ليصبح منتجاً لمن يتحكم فيه، فيفسد. ولنتأمل كيف سيكون شكل الأوطان التي يتوق معظم ساكنيها للبحث عن أمكنة أخرى، حيث حلم اللجوء يسكن وعياً جمعياً، ما بات يشكل مصدر تهديد للدول الغربية التي ترى أن نموذجها الديمقراطي بات مهدداً بهذا الفيض الآتي من الجنوب أو الشرق أو ممن يبحثون عن معاني للحياة؛ بمعزل عن ضيق الوطن وخيباته اللامتناهية، ولكن كيف يمكن أن نفكك معادلة تحمل أعباء خوض البحر على قارب مطاطي لتعبر الموت وصولاً للحياة، سوى إنه ردة على المكان، أو كفر به، ويبقى السؤال الأكبر: متى ستتمكن تلك الأمكنة التي دفع الكثيرون أرواحهم من أجل حريتها واستقلالها ترتهن إلى هذا الفساد! هل يكمن الخلل بأننا شعوب لا تتقن احترام المكان، فتتقدم قيم العصبية والعنصرية والعرقية على الولاء للمكان، حتى لم يعد هناك من أركان أو مساحات للحياة، لا يبدو الفساد سوى كيانات جزئيات تتكاثف لندرك أنه ممارسة ثقافية تكاد تشمل الوعي الداخلي، فهناك فساد في الشارع، والحدائق، والدوائر الحكومية، والمدارس، والمستشفيات، وحين نرغب في وصف مكان بأنه عطل من الفساد نسارع إلى تشبيهه بالغرب الذي نمقته، غير أننا نرغب بفضائهم، ربما لأنه أقل فساداً، أو ربما إفساداً… ولنا أن نتخيل كتابة نص سردي لعالم بات الغرب فيه يفيض بالمهاجرين، هرباً من فساد أمكنتهم كي ندرك بأننا نحمل معنا بذور الإفساد، وبهذا يكون المكان بريئاً، وإنما المعضلة تكمن بمن يسكن المكان، لا المكان، ويبقى السؤال الأهم ألم نكتف من الفساد؟ إذ لم يعد هناك من يرغب بالحياة في هذا المكان!
كيف يمكن أن نتعلم كيف نتجاوز المكان، لنمارس صوفية التعالي عليه، وتحييد الفضاء، وجعله محصوراً في حيّز جغرافي نوجد فيه! ولكن بلا روح تسكنه، غير أن المعنى يكمن في الذات، أو اندغام الأنا مع الطبيعة الأم التي لا تخضع لحدود البشر والأهواء، هكذا ربما يجد البعض حلاً لمعضلته حين لا يحسن التواؤم مع المكان، أو مع المشوه منه، فيتحول إلى لعنة، هل لنا أن نتخيل بأن المكان قد يعدّ جزءاً من القدر فلا نملك سوى الإذعان له إلى حين.

القدس العربي