• 23 كانون أول 2021
  • ثقافيات

سياسة والديانة والتاريخ والآثار(2-1)

 

 

بقلم : الدكتور زيدان كفافي

 

شهدت نهاية القرن الثامن عشر ومطلع التاسع عشر حملة نابليون على مصر وكان من ضمنها عدد من العلماء والباحثين في دراسة التاريخ والآثار، خاصة في مجال الدراسات الأثرية. وبعدها استطاع العالم شامبليون وهو من أعضاء الحملة فك رموز حجر الرشيد المكتوب بلغات ثلاث هي: اليونانية، والهيروغليفية، والهيراطيقية، مستعيناً بمعرفته باللغة اليونانية.  وباعتقادنا أن هذه الحملة جاءت لتؤكد استمرار الصراع الحضاري بين العالمين الشرقي والغربي، والذي بدأ مع قدوم الإسكندر المكدوني في عام 332 قبل الميلاد. وبعد سقوط القدس في عام 63 قبل الميلاد على يد القائد الرومي بومبي، خضعت أجزاء كبيرة من بلاد الأناضول وشرقي البحر المتوسط وشمالي إفريقيا لحكمهم. وفي الوقت ذاته، كان يحكم هذه البلاد عدد من الممالك العربية المحلية، مثل المملكة التدمرية، والنبطية في بلاد الشام، ومدينة قرطاج الفنيقية في تونس الحالية. وقد سادت في هذه المرحلة في العالمين الشرقي والغربي الأديان الوثنية، مع وجود عدد قليل من أتباع الديانة اليهودية الذين أعادهم ملكا الفرس قورش وقمبيز في حوالي 538 قبل الميلاد إلى فلسطين. ومن نافل القول أن سلالة (حشمونيم) كانت تحكم في منطقة القدس والمناطق المحيطة بها (يهودا) خلال حكم السلوقيين، واستطاعت ولفترة قصيرة بين سنتي 140 - 116 قبل الميلاد الاستقلال عن حكمهم. وبعد انهيار الحكم السلوقي في حوالي 110 قبل الميلاد استطاعت هذه الأسرة أن توسع نفوذها إلى مناطق نابلس وجبال الجليل. لكن هذا الأمر لم يستمر طويلاً، إذ قضى الروم بقيادة بومبي في عام 63 قبل الميلاد على هذه الأسرة، وأنشأ بدلاً عنها كياناً يدين بالولاء للإمبراطورية الرومية وتم تعيين «هيرودس الكبير في حوالي 40 قبل الميلاد ملكاً عليها. وحاول هذا الملك تأكيد شرعيته بالحكم فتزوج من امرأة اسمها «مريم» من السلالة الحشمونية. وتؤكد المصادر التاريخية المكتوبة العداء المتأصل بين مملكتي هيرودس الكبير والنبطية.
استطاع الامبراطور الرومي قسطنطين الأكبر أن يستولي في عام 312 ميلادية على الحكم في روما، وأخذ يشجع على اعتناق الديانة المسيحية. واعترف في عام 324 ميلادية بالديانة المسيحية ديناً رسمياً للدولة الرومية، وتعاظم بعدها اهتمام الغرب بالأرض المقدسة، خاصة بعد انتشار الديانة المسيحية في مناطق واسعة من الإمبراطورية الرومية وقيام القديسة هيلانة بزيارة القدس وبنائها كنيسة القيامة فيها. نتيجة لهذا بدأ تنافس بين الديانتين اليهودية والمسيحية، خاصة وأن المجتمع اليهودي رفض بشدة الديانة المسيحية، في الوقت نفسه تبنتها المجتمعات العربية مثل النبطية والقبائل الغسانية. وبعدها شهد الوجود اليهودي تراجعاً كبيراً لا يخرج عن كونه قبائل متفرقة هنا وهناك دون أن يكون لها أي كيان سياسي يجمعها. لكن وفي عام 614 ميلادية استطاع الجيش الفارسي وبمؤامرة من اليهود المتبقين في القدس أن يدخل المدينة وأن يقوم بذبح النصارى فيها ذبح النعاج وتهجير من لم يقتل منهم إلى خارجها.
وبعد بزوغ فجر الإسلام وهجرة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) إلى يثرب (المدينة المنورة) في عام 622 ميلادية وجد فيها مجتمعاً يهودياً مكوناً من ثلاث قبائل هي: بنو قينقاع، وبنو النضير وبنو قريظة. علماً أن الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) وقع معها اتفاقاً إلاّ أنه دمرها وهجرها خارج المدينة تباعاً، وعلى النحو الآتي:
- اجلاء قبيلة بني قينقاع عن المدينة في عام 624 ميلادية، وبعد غزوة بدر.
- إجلاء قبيلة بني النضير عن المدينة في عام 625 ميلادية.
- القضاء على قبيلة بني قريظة بعد عودة الرسول من غزوة خيبر.
ولقد قام الرسول بعدها وفي عام 628 ميلادية بغزوة خيبر حيث استطاع اخضاع المدينة التي كان ساكنوها من اليهود. ونتيجة لهذه الغزوة عقد الرسول اتفاقية مع الجالية اليهودية في المدينة وكانت شروطها مواتية لليهود، حيث تزوج من ابنة (حيي ابن أخطب)، وانتقل بعدها إلى الرفيق الأعلى في عام 632 ميلادية.
بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، انتقل الحكم إلى الخلفاء الراشدين، ومن بعدهم إلى الأمويين وتم خلال حكمهم انتشار الإسلام فوق مناطق واسعة من العالم امتدت من أواسط آسيا في الشرق إلى المحيط الأطلسي في الغرب. ونتيجة لهذا أخذت الديانة الإسلامية تحل محل الديانتين اليهودية والنصرانية في كثير من بلدان آسيا، وإفريقيا. وهنا بدأ صراع ديني - سياسي للسيطرة على العالم القديم بين أصحاب الديانات السماوية الثلاث. لكن وفي عام 1258 ميلادية تعرضت بلاد المسلمين لحملات المغول الذين قضوا على الخلافة العباسية في بغداد، فانتقل من بقي على قيد الحياة من العباسيين إلى القاهرة. وتم تقسيم العالم الإسلامي إلى دول تتصارع بينها، فكانت هناك الممالك الصفوية والفاطمية التي حكمت العالم الإسلامي في القرن العاشر الميلادي. استمرت الخلافة العباسية في مصر قائمة بالإسم حتى عام 1519 ميلادية عندما اجتاحتها الجيوش العثمانية فتنازل آخر خلفائها عن لقبه «خليفة المسلمين» لسلطان آل عثمان (سليم الأول) الذي نقل العاصمة من القاهرة إلى القسطنطينية.
لم يرق لأوروبا المسيحية أن تكون الأراضي المقدسة، وخاصة مدينة القدس، تحت سيطرة المسلمين، فقامت في الفترة بين 1096 وحتى 1291 ميلادية بمجموعة من الحملات والحروب التي سميت باسم «الحروب الصليبية» لأنها كانت ذات طابع ديني. إدّعى القائمون على هذه الحروب أنها جاءت استجابة لدعوة من الإمبراطورية البيزنطية الأرثوذكسية الشرقية لمساعدتهم لوقف زحف المسلمين السلاجقة في بلاد الأناضول، لكنها كانت في الحقيقة للسيطرة على الأراضي المقدسة ولأمور اقتصادية أخرى.
لم يقطع العالم الغربي بعد انتهاء الحروب الصليبية صِلاته مع العالم الشرقي، إذ واصل عدد من الرحالة والمستكشفين زياراتهم للمنطقة، خاصة الأراضي المقدسة، وتقديم التقارير حولها للمؤسسات والهيئات الغربية التي مولت رحلاتهم. وما كان هذا ليكون لولا اهتمام العالم الغربي بتثبيت المعلومات الواردة في الكتاب المقدس المكون من العهد القديم (التوراة) والعهد الجديد (الإنجيل)،  وكأنه يأتي إحياء لعهد الحروب الصليبية. تبع هذا الأمر، وفي منتصف القرن التاسع عشر، مرحلة الصراع بين النصوص الدينية التوراتية والعلوم البحتة، إذ قدم العالم داروين نظريته في كتابه «أصل الأنواع» والذي أبان فيه أن عمر العالم يتعدى 4006 سنوات كما قدره علماء التوراة، وذكر أن هناك بقايا حياتية من نباتية وحيوانية يتعدى عمرها ملايين السنين. من هنا شعر القائمون على الدراسات التوراتية أن تفسيراتهم للنصوص التوراتية غير دقيقة. أدى هذا بطبيعة الحال إلى أن يقوم بعض من أهل الديانات السماوية بتكفير داروين ورجمه ومن تبع نظريته بالكفر والإلحاد. من هنا نجد أن هناك صداماً حاداً بدأ يظهر مع منتصف القرن التاسع عشر بين العلم والدين. من هنا كان لا بد لأهل الكنيسة من أن يجمعوا أنفسهم وأن يردوا بشكل علمي ومنظم على من يخالف المعلومات التوراتية. وحتى يتم الأمر شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر ظهور أمرين هامين، هما:
1.  تأسيس المدارس والمعاهد الأثرية الغربية: صندوق استكتشاف فلسطين   (Palestine Exploration Fund) تأسس في عام 1860 ميلادية  على يد أساقفة كنيسة كانتربري في انكلترا. وقد أعلن القائمون عليه أن الهدف من تأسيسه هو إثبات صحة ما جاء في التوراة. وتبع تأسيس هذه المؤسسة تأسيس عدد من المدارس والمعاهد المشابهة في عدد من الدول الأوروبية (ألمانيا وفرنسا)، والأمريكية (الولايات المتحدة الأمريكية).
2. تم في مدينة بازل السويسرية في عام 1896م انطلاق الحركة الصهيونية، والتي كان من أهم أهدافها إيجاد وطن قومي لليهود، وبالتحديد في فلسطين.
لقد قامت هذه المدارس خلال الفترة السابقة للحرب العالمية الأولى بإجراء حفريات أثرية في عدد من المواقع الأثرية التي ورد ذكرها في التوراة مثل أريحا، وتل المتسلم (مجدو) ، والقدس. لكنهم استخدموا وسائل بسيطة للتنقيب الأثري، كما أن اهتمامهم كان بالقطع الأثرية المتميزة والثمينة. أي حاول المنقبون استخدام المعتقدات الدينية التوراتية وربطها مع الآثار المكتشفة في هذه المواقع.
وحيث إن الشيء بالشيء يذكر فقد شهد بداية القرن العشرين عدة متغيرات سياسية في البلدان العربية، خاصة الواقعة شرقي البحر المتوسط وفي الجزيرة العربية، ومنها:
1. التفاف الضباط العرب في الجيش العثماني (جمعية العربية الفتاة) حول شريف مكة (المغفور له الحسين بن علي) والمطالبة بتأسيس دولة عربية بقيادته، ثم قيامه بالثورة العربية الكبرى (مشروع النهضة العربي).
2. سقوط الدولة العثمانية  وانتهاؤها نتيجة للحرب العالمية الأولى.
3. تصريح بلفور وزير الخارجية البريطانية الذي ينص على إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
4. نفي الشريف حسين، والقضاء على المملكة العربية السورية الفيصلية بعد معركة ميسلون في عام 1920م.
5. الهجرات اليهودية بتشجيع من الانتداب البريطاني إلى فلسطين، وإنشاء «الوكالة اليهودية» لشراء الأراضي في البلاد المقدسة.
خلال الفترة الواقعة بين الحربين العالميتين قام الآثاريون التوراتيون بعدد كبير من المسوحات والحفريات الأثرية التي شملت كل مناطق فلسطين وبعض أجزاء من الأردن، وذلك بتمويل من مؤسسات علمية يسيطر عليها الفكر التوراتي، مثل «المدارس الأمريكية للدراسات الشرقية «American Schools of Oriental Research». أي إن الدين أصبح مكوناً رئيساً في رسم المستقبل السياسي لفلسطين اعتماداً على ما ورد في النصوص التوراتية، في محاولة لتثبيت صحتها باكتشافات أثرية، وتفسيرها بالطريقة التي تناسبهم.  ليس هذا فقط، وحتى يتم الأمر بشكل علمي فقد اقترح هؤلاء التوراتيون عدداً من المصطلحات والتسميات وأطلقوها على الفترات الزمنية منها: الكنعانية وقد أُطلقت على فترات العصور البرونزية الممتدة من حوالي 3600 - 1200 قبل الميلاد، والإسرائيلية على العصر الحديدي الممتد بين حوالي 1200 وحتى 586 قبل الميلاد. كما قسم الباحثون التوراتيون التاريخ اليهودي لعدة مراحل، وعلى النحو الآتي:
1. مرحلة الآباء (Patriarchs): وهي المرحلة المؤرخة بين حوالي 2000 و1200 قبل الميلاد وشهدت ظهور الأنبياء إبراهيم وإسحق ويعقوب وذريتهم.
2. مرحلة المملكة الموحدة (United Kingdom) وهي المرحلة التي تبدأ بحكم شاؤول في حوالي 1004 قبل الميلاد وتبعه داود ثم ابنه سليمان وتنتهي في حوالي 923 قبل الميلاد.
3. انقسام المملكة الموحدة إلى مملكتين، هما السامرة في الشمال وقضى عليها الملك الآشوري سرجون في عام 722 قبل الميلاد، ومملكة يهوذا في الجنوب ودمرها الملك نبوخذنصر الكلداني في عام 586 قبل الميلاد وسبى أهلها إلى بابل.
4. فترة سبي اليهود في بابل حتى أعادهم قورش سنة 538 قبل الميلاد.
تشتت اليهود بعد احتلال بومبي للقدس في عام 63 قبل الميلاد في أصقاع متعددة ومتباعدة من بلاد الشرق الأدنى القديم، ولم تجمعهم أية وحدة سياسية بعدها. لكن من بقي في القدس هم الذين أرشدوا قادة حملة الفرس على كيفية اقتحامها في عام 614 ميلادية، ونكلوا بالنصارى فيها. وبناء عليه، ورد في العهدة العمرية وبناء على طلب من كاهنها المسيحي «صوفرونيوس» ألاّ يبقى أي يهودي فيها». وكأن اليهود بهذا يردون الجميل للفرس حيث أرجعهم قورش إلى فلسطين من منفاهم في بابل.
عودة إلى متابعة الحديث حول تطويع الآثار في خدمة الدين والسياسة، إذ قام الباحثون التوراتيون في الفترة الواقعة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية بعدد كبير من التنقيبات والمسوحات الأثرية في مواقع فلسطينية، مثل: أريحا، والقدس، وتل المتسلم، وتل بيت مرسم. وكان الهدف الأساسي لهذه المشاريع هو البحث عن المدن الكنعانية التي دمرتها القبائل الإسرائيلية في طريقها وهي خارجة من مصر إلى الأرض الموعودة، والتي حددتها التوراة بمنطقة تضم فلسطين الجغرافية ومناطق أخرى مجاورة لها. وتذكر التوراة، أنه وبعد أن استقر الأمر للقبائل الاسرائيلية في فلسطين، قامت بتوزيع الأراضي التي احتلتها بالقوة فيما بينها، حيث حصلت تسع قبائل ونصف على الأراضي المحتلة في فلسطين، وقبيلتان ونصف على أراضٍ من شرقي نهر الأردن. والقارئ للنصوص التوراتية بهذا الخصوص قد يتوهم بأن أصحاب الأرض الأصليين قد رفعوا الرايات البيضاء واستسلموا للمحتل دون أدنى مقاومة. ومارس الباحثون التوراتيون في هذه المرحلة منهجية تعتمد على الربط بين المكتشفات الأثرية - خاصة تطور أشكال الأواني الفخارية، والقطع الأثرية التي تحمل كتابة - وربطها مع تتابع الطبقات التي تشكل الموقع الأثري. ومؤسس هذه المدرسة ورائدها هو الأمريكي وليم فوكسويل أولبرايت  (William Foxwell Albright)الذي نقب خلال ثلاثينات القرن العشرين في موقع تل بيت مرسم بمنطقة الخليل، ونشر كتاباً له بعنوان:Archaeology of Palestine. ولا يزال كثير من الباحثين الأثريين يتّبعون هذا المنهج في تفسير نتائج حفرياتهم الأثري

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بقلم : الدكتور زيدان كفافي 

 

يبدو أن وليم فوكسويل أولبرايت اقتسم وتلميذه الأمريكي اليهودي نلسون غلوك العمل الأثري في منطقة جنوبي بلاد الشام، حيث ركز الأول على فلسطين، بينما قام الثاني بإجراء مسوحات أثرية شاملة للمنطقة الواقعة شرقي نهر الأردن. وضمَّن غلوك نتائج مسوحاته الأثرية في الأردن في مجلدات نشرها عام 1951ميلادية بعنوان:
Explorations in Eastern Palestine
وعلى الرغم من أن المجلدات قد نشرت بعد حصول الأردن على استقلالها في عام 1946م، فإن هذا الباحث اليهودي أشار إلى الأردن على أنها المنطقة الشرقية لفلسطين.
 لقي هذا المنهج التوراتي، الذي حمل أصحابه التوراة بيد والمعول بيد أخرى، نقداً واسعاّ وعدم قبول من عدد من الباحثين من أمثال الهولندي هنك فرانكن (Henk Franken) وغيره. كذلك لاحظ التوراتيون أنه قد فشل في تحقيق الأهداف التي قام من أجلها، وبناء عليه كان لا بد من إيجاد منهج جديد مقنع علمياً يحقق أهداف الصهيونية العالمية. من هنا، وبعد الاحتلال الاسرائيلي للضفة الغربية من المملكة الاردنية الهاشمية في عام 1967م خرج علينا الباحث الإسرائيلي إسرائيل فنكلشتاين (Israel Finkelstein) بمنهجية جديدة تجمع بين شكل المستوطن (مخيم، أو قرية، أو بلدة، أو مدينة) وربطها بطبيعة المجتمع الذي عاش فيه (قبلي، أو فلاحي، أو متمدن). وبطبيعة الحال ربط بين المواقع التي يمكن وصفها مخيمات والمجتمع القبلي اليهودي الذي عبر إلى فلسطين حسب رأي التوراة. ولتحقيق هذه الغاية قام مباشرة بعد حرب حزيران في عام 1967م باجراء مسوحات أثرية في مناطق متعددة من فلسطين، ونشر نتائجها في كتاب عنوانه:
Finkelstein, Israel 1988;The Archaeology of the Israelite Settlement. Jerusalem: Israel Exploration Society.
ونقتبس أدناه ما ذكره فنكلشتاين حول منهج طبيعة المواقع الأثرية:
«The Settlement of the Israelites in the 12th and 11th centuries BCE, and their transformation from a society of isolated tribes into an organized kingdom, is one of the most exciting, inspiring, and at the same time controversial chapters in the history of the Land of Israel» (Finkelstein 1988:15).
 ومن نافل القول أن فنكلشتاين أدرج أجزاء من الأردن في دراسته هذه، وعدّها جزءاً من اسرائيل القديمة (الصفحات 112 - 117).
أصبحت كامل فلسطين تحت الاحتلال الاسرائيلي بعد عام 1967م، مما سمح للباحثين الإسرائيليين وغيرهم من التوراتيين في كل العالم للقدوم إلى فلسطين والبحث فيها عن الآثار اليهودية. كما تم التركيز على عدد من المواقع، من أهمها القدس. كما ورافق هذا، وللأسف، مجموعة من الحفريات غير المشروعة التي قام بها مواطنون فلسطينيون للبحث عن آثار يهودية تدر عليهم دخلاً كبيراً. أي إن بعض المواطنين الفلسطينيين ساعدوا بطريقة غير مقصودة على البحث مع الاسرائيليين عن دلائل تثبت وجود اليهود على أرض كنعان.
شهد عام 1994 ميلادية تحولات سياسية على الساحة العربية- الإسرائيلية، وعلمية بخصوص الدراسات التوراتية. فعلى الصعيد السياسي، تبعت المصالحة الاسرائيلية-المصرية التي جاءت نتيجة لمباحثات كامب ديفيد في عام 1978م، اتفاقيتان الأولى: اتفاقية أوسلو بين الفلسطينيين والإسرائيليين، والثانية اتفاقية وادي عربة بين الأردن واسرائيل. وأما على صعيد البحث التوراتي تشكلت في كوبنهاغن/ الدنمارك وفي عام 1994م مدرسة أسسها مجموعة من العلماء التوراتيين وعلى رأسهم توماس طومبسون (Thomas Thompson) وفيليب ديفيس (Philip Davis) أطلقوا على أنفسهم اسم: Revisionists or Minimalists إضافة لبعض العلماء الإسرائيليين ومن بينهم إسرائيل فنكلشتاين. وقد نادت هذه المدرسة بعدم الاعتماد الكلي على النصوص التوراتية في تفسير الآثار. وعلماً بأن هؤلاء، بنظرنا، لم يخرجوا من تحت العباءة التوراتية، إلا أن بعض العرب هللوا وكبروا لهم، وهم في طرحهم هذا جنحوا لتحقيق أهدافهم بطريقة ذكية جداً ترضي العرب بقولهم إن القدس لم تكن ذات أهمية سياسية خلال القرن العاشر قبل الميلاد.
ونذكر في هذا الصدد ما قاله صامويل هانتنغتون في محاضرة له ألقاها في American Enterprise Institute  في عام 1992م ثم نشرها في مقالة عنوانها:
Huntington, Samuel, P. 1993; The Clash of Civilizations? Foreign Affairs Vol. 72, No. 3: 22-49. https://www.jstor.org/stable/20045621
أن الصراع الأممي في أساسه سيتحول بعد انتهاء الحرب الباردة من صراع بين بلدان في معسكرين شرقي وغربي إلى صراع ثقافي مبني على اختلاف المعتقدات الدينية. وبعدها طور هانتنغتون مقالته هذه إلى كتاب نشره في عام 1996م تحت عنوان:
Huntington, Samuel, P. 1996; The Clash of Civilizations and the Remarking of World Order. Washington: Simon & Schuster.
ولو نظرنا إلى ما نحن فيه الآن في منطقتنا العربية بشكل خاص، والعالم بشكل عام، لوجدنا أننا نطبق ما قاله ونشره هانتنغتون بالحرف.
أما فيما يخص الأردن، فقد نشر في عام 2000 ميلادية كتاب عنوانه: The Archaeology of Jordan
بمشاركة عدد من المؤلفين والباحثين الذين نقبوا في مواقع أثرية أردنية. وجاء الفصل الذي يتحدث حول الأردن في العصر الحديدي (حوالي 1200 - 586 قبل الميلاد) يحمل معلومات تؤشر على وصف بعض المواقع والمناطق بأنها إسرائيلية. وحدث أنني التقيت بأحد مؤلفي هذا الفصل في عام 2002 في مؤتمر بتورنتو بكندا وتحاورت معه حول ما نشر في هذا الفصل، وقال لي بالحرف الواحد: «نقلت هذا الكلام عن نص حجر ميشع»؛ فأجبته: «إن الملك المؤآبي ميشع يقول بأنه قد طرد المحتل الإسرائيلي من بلاده، والمحتل ليس صاحب مكان»؛ فأومأ برأسه موافقاً، وكتب لمحرري الكتاب لحذف هذه المسميات من الطبعات الجديدة للكتاب، وهذا ما كان.
إضافة لهذا الأمر، فقد قام فريق من جامعة سان دييغو الأمريكية، وهم على درجة عالية من المقدرة والكفاءة العلمية، ويمتلكون معدات ووسائل علمية متقدمة، بالتنقيب في منطقة وادي فينان بحثاً عن بقايا أثرية ودراسة لمناجم النحاس القديمة فيها. ونشر هذا الفريق نتائج أبحاثه في عدد من المجلات العلمية العالمية المعروفة، لكن ما يشير إلى سوء نواياهم هو تقرير نشر على uTube يقول فيه المشرفون على المشروع بأن مناجم النحاس هذه تخص الملك سليمان. ومن هنا وجدت من واجبي التحري حول هذه المعلومة فقمت بنشر بحث حولها أدحض فيه ما نشر،وعنوان البحث هو:
Kafafi, Zeidan 2014, New Insights on the Copper Mines of Wadi Faynan/Jordan. Palestine Exploration Quarterly 146/4: 263-280.
وبعد نشر البحث أعلاه قام أحد أعضاء الفريق الأمريكي بالرد على ما نشرت وأكتفي بكتابة عنوانه أدناه:
Najjar, Muhammad 2015; Solomonic Phobia or 10th Century BCE Phobia? Response to Zeidan A. Kafafi, «New Insights on the Copper Mines of Wadi Faynan/Jordan, PEQ 146.4 (2014), 263-80. Palestine Exploration Quarterly 147/3: 247-253.   
وأكثر من هذا، تذكر النصوص التوراتية أن منطقة جلعاد الواقعة شرقي النهر كانت جزءاً من مملكة إسرائيل القديمة. وتضم هذه المنطقة الممتدة بين البلقاء في الجنوب ونهر اليرموك في الشمال عدداً كبيراً من المواقع الأثرية منها موقع يقع في محافظة الرمثا وبالقرب من جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية اسمه (تل الرميث). ويعتقد الباحثون التوراتيون أنه ربما يكون موقع (رموت هجلعاد) الوارد ذكره في التوراة. ولأهمية الموقع، قام الآثاري الأمريكي بول لاب (Paul Lapp)  في بداية ستينيات القرن الفائت بإجراء تنقيبات أثرية فيه، وخرج برأي مفاده أن الموقع آرامي وتبع لمملكة دمشق الآرامية خلال العصر الحديدي الثاني (حوالي 1000 - 586 قبل الميلاد). وفي عام 2011م قامت مجموعة من الآثاريين الإسرائيليين بزيارة الموقع وكتبوا على أثرها مقالة عنوانها:
Finkelstein, I. et al. 2013; Tell Rumeith in Northern Jordan: Some Archaeological and Historical Observations. Semitica 55: 7-23.
وذكروا في هذا البحث أن تل الرميث كان جزءاً من منطقة جلعاد التابعة لمملكة إسرائيل، وليس لآرام دمشق كما ذكر المنقب الأصلي للموقع. وحيث إن الأمر هكذا، وأن ما نشره الإسرائيليون نتيجة لزيارة عابرة  ولا تعتمد على أية منطق علمي فقد قمت بكتابة مقالة رداً على هذا الإدعاء وعنوانها:
Kafafi, Z.  2017; North Jordan During the Early Iron Age: An Historical and Archaeological Synthesis. Walking Through Jordan. Essays in Honor of Burton MacDonald. Pp. 63-77.  Sheffield: Equinox Publishing.
طغى في عام 2011 ميلادية على الشارع الأردني بشكل عام، والأثري بشكل خاص، موضوع الدفاتر الرصاصية المكتوبة على ورق معدني (الرصاص أو النحاس) والمعروفة (Codices) وأرخت حسب رأي بعض الباحثين لزمن السيد المسيح وأنها مكتوبة بخط عبري، أي إنها تخص طائفة يهودية سكنت في منطقة شمالي مدينة إربد بالقرب من بلدة سحم. وانقسم الرأي الأكاديمي الأردني بين قائل إنها أصلية، وآخر بأنها مزيفة، كما تشكلت لجنة علمية (مركز) لدراستها في جامعة مانشستر البريطانية. ولفض هذا الاشتباك العلمي شكلت دائرة الآثار العامة الأردنية لجنة من عدد من المتخصصين الذين أعلنوا أنها غير أصلية، بل مزيفة. وبنظرنا لو أن ادعاء أصحاب القول بأصالتها وصحة النصوص المكتوبة بها هذه الدفاتر كان صحيحاً لكان هذا إثباتاً تبحث عنه الصهيونية العالمية على أن اليهود القدامى كان لهم موطن بشمالي الأردن.
وأخيراً انشغل الشارع الأردني مع بداية شهر آب الحالي بحادثة صلاة مجموعة من اليهود الإسرائيليين اقتحموا مقام النبي هارون في البتراء عنوة، لأداء صلاتهم فيه. في رأينا فإن هذه الحادثة لن تكون آخر المطاف لتأكيد على وجود اليهود في شرقي نهر الأردن، بل ستتبعها في المستقبل محاولات أخرى. وللوقوف في وجه هذه الحملات التي تعتمد في رأيها على النصوص التوراتية والبقايا الأثرية لا بد من رأي علمي يقابل الحجة بالحجة، ويكفينا عنتريات وتهويشاً. ويجب علينا توجيه مجموعة من الأسئلة ومحاولة الإجابة عليها، ومنها، من هم اليهود الأوائل، أي أتباع النبي موسى؟ وهل خرج جميعهم من مصر؟ ومن هو الإله (إلههم) الذي وعدهم بالأرض المقدسة (يهوه أم إلوهيم)؟ وما هي حدود الأرض الموعودة؟ وكيف عرف الناس أن مقام النبي هارون في البتراء هو قبره؟
وللإجابة على بعض هذه الأسئلة يجب علينا الاعتراف بأن الكتب الدينية السماوية تعترف بالخروج، لكن هل كان هذا الخروج بنفس الصورة التي رسمتها التوراة؟ على الأقل من ناحية العدد الكبير (600 ألف شخص خرج من مصر...!!). كما أننا نلفت النظر إلى أن حادثة الخروج لم تذكر في أي نص تاريخي، حتى الفرعوني منها. وأن أول ذكر لكلمة «إسرائيل» في المصادر التاريخية جاء على مسلة الفرعون المصري مرنبتاح (حوالي 1207 قبل الميلاد) ، والكلمة تعود لشعب وليس لأرض. كما أن بعض العلماء الغربيين يشككون بأن السطرين الأخيرين من الكتابة الموجودة على المسلة، وتضم كلمة إسرائيل، قد أضيفت في مرحلة لاحقة، لأن موضوع المسلة يتحدث عن انتصار الفرعون المصري على القبائل الليبية في غربي مصر. ونضيف هنا أيضاً، أنه ومع عدم معرفتنا للإله الذي وعد الخارجين من مصر بالأرض الموعودة، فإن هذا الجيل الموعود بالأرض لم يدخلها لمرور أكثر من أربعين عاماً على التيه وضياعهم في سيناء، ولهذا على الأغلب أن يكونوا قد قضوا، حتى لو افترضنا صحة قصة الخروج. ومن يريد معرفة رأينا بهذا الخصوص عليه مراجعة بحثنا المنشور عام 2019 م في مجلة أدوماتو التي تصدر عن (مركز عبد الرحمن السديري) بالرياض.
كفافي، زيدان؛ فلسطين خلال العصر الحديدي الأول (1200 - 1000 ق.م.). دراسة مقارنة بين الروايات التوراتية والبيانات الأثرية. أدوماتو 39: 7 - 28.
إجابة للسؤال: هل مقام هارون في البتراء هو قبر النبي هارون أخ النبي موسى؟ نعلم أنه وأثناء سيطرة الصليبيين على بلاد الشام، ومحاولة الأيوبيين طردهم من الأرض المقدسة، أجج ملوك الأيوبيين ومن تبعهم من المماليك الوازع الديني لدى أهل المنطقة ببناء المقامات والأضرحة لأولياء الله. وأوقف هؤلاء التبرعات والنذور التي تقدم لمقامات الأولياء الصالحين لصالح المجهود العسكري، وخاصة تحرير القدس، وهذا ما كان. إذن فإن من أعطى أسماء لهذه المقامات هم المسلمون، ومن هنا نرى أنهم يزورونها سنوياً وبشكل منتظم ويذبحون الأضاحي عندها. وهل نتناسى كيف يحتفل الناس سنوياً بموسم للنبي موسى كان ينطلق من القدس باتجاه مقامه بالقرب من أريحا في منطقة غربي البحر الميت.
ونسأل في نهاية الأمر، من هم اليهود الأوائل، أي من هم أتباع النبي موسى؟ وكون أننا مسلمون نعترف بالديانات السماوية الثلاث، وأن الدين الإسلامي جاء مكملاً للديانتين اليهودية والنصرانية، فإن أتباع موسى هم من بين ظهرانينا، من أهل هذه المنطقة ولا علاقة لهم بصهاينة هذه الأيام المحتلين لأرضنا العربية. ويجب أن نعترف بقصورنا وضعفنا أمام الإمكانات المادية والعلمية والقوة للصهيونية العالمية وقدرتها على قلب الأمور وتزييف ومصادرة التاريخ. لكن الأهم من هذا، وأفضل رد عليه هو تضافر الجهود، والوحدة الوطنية التي تتشابك فيها الأيدي وتتلاحم فيها الأجساد خدمة للأردن وفلسطين. ولا بد من وقفة وصمود خلف الراية الهاشمية المدافعة عن الحقوق والثوابت العربية بقيادة صاحب الجلالة الهاشمية الملك عبدالله الثاني المعظم حفظه الله ورعاه.