• 10 كانون الثاني 2022
  • ثقافيات

 

بقلم : تحسين يقين

  

أداة للتنوير!

التقطتها من عبارة المخرج خيري بشارة الفيلم في الإهداء: "الى المخرج والممثل والناقد كامل يوسف، خالي....الذي كان انبهاري به في سنوات الصبا يرسم طريقي نحو اختيار الفن السابع عشقا..وأداة للتنوير"، كما جاء في مقدمة الفيلم. أما محمد المنسي قنديل الذي أهديه المقال، فهو كاتب الفيلم، الذي لم أعرف ذلك إلا بعد 30 عاما، منها 20عاما، كنت فيها قد تعرفت عليه محررا في مجلة "العربي"، حيث كات يتابع موادي ونتبادل التحيات. وددت لو كنت أعرف ذلك، لحدثته عن ذكريات مع هذا الفيلم. سأعلم بعد ذلك عند تدقيقي في أسماء الكتاب وكتاب سيناريوهات الأفلام، أنه له أفلاما أخرى كتبها. أما سارة، فهي ابنتي آخر العنقود، التي زاد نهمها للآيس كريم في ديسمبر كانون الأول، وظل حتى في المربعنية الفلسطينية. أسمعتها بالطبع أغنية أيس كريم في ديسمبر لعمرو دياب، وغنينا معا، ثم جاءت فكرة استعادة الفيلم لا للمشاهدة فقط، فقد شاهدته كثيرا على مدار الثلاثة عقود، منذ عرض في السينما بل للكتابة.

شاهدت الفيلم أول مرة في عروضه الأولى، وكان ذلك في طنطا عام 1992، في سنة التخرج، حيث كنت أحب مشاهدة الأفلام الجديدة في السينما، لأنني أحبها أولا، وحتى عندما أعود إلى وطني، أتذكر أجمل الأيام في مصر، والتي كانت فعلا فنا وأدبا وبحرا. سأعلم فيما بعد 30 عاما، أن المخرج الأستاذ خيري بشارة منحه الله الصحة هو طنطاوي، يعني بحكم عيش فيها أربع سنوات، صرنا بلديات، وسأعلم أنه مولود عام 1947، أي عشية الحرب الأولى، أي بيننا 20 عاما، كان عام النكسة، 1967 العام الذي تخرج فيه من المعهد العالي للسينما. وما لم أعرفه، أنه رغم حداثة سنه في ذلك الوقت بعد عام 1967، إلا أنه كان أحد أركان جماعة السينما الجديدة، مع علي عبد الخالق والفلسطيني غالب شعث( سنكتب قريبا عن فيلمه المهم الظلال على الجانب الآخر) وآخرين اشتهروا فيما بعد؛ لذلك لعلي الآن أجد سببا آخر لإعجابي بفيلم "يوم حلو ويوم مر" الذي كان من بطولة الفنانة الكبيرة فاتن حمامة، الذي افتتح به مهرجان القاهرة السينمائي، أن لم تخني الذاكرة، (سنلجأ لجوجول). ولعلنا ونحن إزاء فيلم "آيس كريم في جليم" نتذكر أن الفنانة سيمون كانت قد ظهرت سينمائيا أول مرة في "يوم حلو يوم مر"، والتي عرفنا أنها من حي شبرا الشهير، وهو المكان الذي نشأ فيه خيري بشارة. وهو مكان ولادة وإقامة الفنانة داليدا قل أن تنتقل الى باريس.

 ولدنا المخرج، وكاتب هذه السطور، في هزيمتين استمرتا حتى الآن! فما العمل!؟

وهو كمخرج تنويري نقدي، اكتوى بهزيمة 1967 التي صدمت جيله إنسانيا وفنيا، ابتعادا عن التقليدية بما ترمز له من النظم التقليدية المهزومة، لم يكن إلا كذلك في هذا الفيلم، بسحرية عاية في البوح والنقد.

أي حلم؟ في بدايات الفيلم، يروي بكلمات غزلية رومانسية عن فتاة الآيس كريم التي لم يشاهدها إلا مرة واحدة، لكنها كانت كافية بالنسبة له ليحبها ويهيم بها. في الربع الأخير من الفيلم، رحلة سيف، يلتقي بها ثانية بعد سنوات، فحين يتقدم منها هذه المرة، ليبثها بوحه العاطفي الجميل والنبيل، تدس الايس كريم في وجهه وتمضي ليصحو ربما من حلمه الرومانسي الجميل، ليعيش واقعه ويعاركه. ولعلنا نتذكر مشاهدة سيف لفيلم "الراقص مع الذئاب" كرمزية عراك الشباب مع الحياة. 

تلك رمزية شفافة لم تكن بالطبع ضمن بنية أحداث الفيلم، لكنها بالطبع محتملة الحدوث والتذكر، والمهم هنا كيف وظفها خيري بشارة في الإيحاء الى الأحلام الأخرى التي عاشها المجتمع، وصحى منها مصدوما. ينسجم مع هذا الإيحاء مشهد بصري غاية في العبقرية، وهو ترديد صديقه الشاعر نور أغاني الثورة القديمة أثناء ركوبه خلفه على الدراجة النارية: خلي السلاح صاحي، عدى النهار، احلف بسماها، ملاعب خضرا، بلادي، في الوقت الذي أظهرت الكاميرا بنوك كثيرة، في ظل مشهد شوارع مهملة وفوضى. وينسجم كذلك مشهد مرور سيدة سبعينية من الخلف، ترتدي القبعة بأناقة، في الوقت الذي يكون سيف يعزف بقوة على البيانو، الذي اقتناه من بائع "الرومابكيا"، حين عزّ عليه وجود البيانو في الأدوات المستخدمة المهملة التي تابع بسعر زهيد. ثمة رمزية رثاء الزمن الجميل، الذي رثاه ربما سيف بعزف ضربات قوية على البيانو، كاحتجاج واضح. كذلك تظهر الكاميرا مفارقة طبقية بين الفلل وكوخ الشاب سيف. كذلك تلك المفارقة بين سيف والدراجة النارية، دراجة العمل في توزيع أشراط الفيديو، وأدهم وسيارة المرسيدس، في انتظار بدرية (سيمون).

يظل هكذا ناقدا، وصولا للمشهد الأخير حين يختار سيف ورفاقه الكشف عن الحقيقية، بأنهم فنانون عاديون، لا يعانون من الإعاقة، التي استخدموها من أجل المشاركة في حفل فني خاص بالمعاقين، دون الانتقاص من كرامتهم، حيث يرمون بالعكازات والنظارات السوداء، لتطيش على الماء، وتلقي بها الأمواج على الرمل زاهدة بها أيضا!

وهنا نتذكر حوار سيف مع آية ابنة زرياب، حين كادت تستسلم قائلة بأنها ستظل "بياعة جاتوه"، فيجيبها، بان تبيع جاتوه وتعمل في أي عمل شريف، لكن على شرط ألا تستسلم. 

ويظل هكذا ناقدا وراثيا للحلم، لا لأحلام جيل الثمانينيات والتسعينيات، بل لأجيال أخرى قبل ذلك وبعدها.

لعله إذن التنوير الذي سكنه حتى في عبارة إهدائه لخاله، الذي من المؤكد أننا سنبحث عنه، كمبدع من جهة، وكمكون فكري وسينمائي لأحد أهم السينمائيين: خيري بشارة.

اسلوب إخراج مميز، من خلال تصوير الواقع باتجاه تغييره، دون  إغفال الأمل، عبر إيراد جماليات بصرية شاعرية غاية في الشفافية والرقي، من أول مشهد: السماء وصولا للنيل والخضرة، وطفلان يحملان حقائبيهما الفقيرتين أثناء العودة من المدرسة، بما له من رمزية الآن والمستقبل. ولعل إظهار الكاميرا للطيور في الفضاء، منسجم مع حديث الشباب عن الهجرة؛ فالفيلم بهذا المهنى انتصار للبقاء في الأوطان بإثبات الذات المبدعة. كذلك إظهار الكاميرا عائلة من أب وأم و3 أطفال، تمر من الشارع. واستخدم المخرج لغة بصرية موحية معبرة، مثل رد فعل أم بدرية عندما وجدت شريط منع الحمل، متسائلة عن مآل هذه العلاقة. كذلك ضربات سيف القوية على البيانو احتجاجا.

ولم يكن ليغامر المخرج خيري بشارة بهذا الفيلم لولا امتلالكه رؤية إخراجية عالية، وقدرة على استخراج الممكن الإبداعي من طاقم التمثيل الشاب المبتدئ سينمائيا.

ينتقل الشاب "سيف" من الإسكندرية للقاهرة لتحقيق موهبته في الغناء فيقيم في جراج يجعله كوخا لإقامته، ويعمل كموزع في نادى فيديو يمتلكه "زيكو" الذي ينتج الأغاني السريعة محدودة القيمة الفنية والإنسانية. يرتبط "سيف" بعلاقة خطوبة مع "بدرية" التي تعمل بائعة وأمها عاملة نظافة في استراحة عند محطة سوبر جت بين القاهرة والإسكندرية. يظهر ادهم رجل الأعمال الثري، فيخف الارتباط وصولا للبعد، حيث تختار بدرية الثري الذي يستغلها بالطبع مقابل هداياه.

 تقوده قدماه الى حفل لأحد الأثرياء، يكتشف سيف أن الفتاة التي دعته الى الحفل قد فعلت ذلك لكيد لصاحبها الذي تركها وارتبط بصديقتها. يحدث عراك، يدخل السجن ويلتقي الشاب نور اليساري الذي يكتب الشعر، يلتقيان فيما بعد مع ملحن عجوز مغمور يدعى "زرياب". 

حين يزوران زرياب، يكتشف سيف ان الفتاة نور التي طردها زيكو لأنها لم تقبل تحرشاته، مقابل أن ينتج لها شريط كاسيت، والتي منحها الجاكيت لتستر نفسها، هي ابنة زرياب الذي حدثته عنه خلال اللقاء الأول في شركة زيكو. يتبادلان المشاعر لكن زرياب الوالد يحذرها من لأن يكون ميلهما لأحدهما سببا في فرقتهما.

يقوم "نور" بتأليف أغاني شبابية، يلحنها زرياب ويغنيها "سيف" في الشوارع والحدائق العامة وعلى شاطئ البحر لتحقق نجاحًا كبيرًا بالإسكندرية. تعود بدرية في النهاية نادمة، لكن لم يفدها الندم، بل نالت توبيخا من سيف، الذي تختاره آية وفق مباركة صديقه.

نقد للمنظومة عبر الكاميرا والأغاني، والحوار، حيث أن الفيلم ينسجم في النقد الاجتماعي والفني، ليوحي بالنقد السياسي. نقد لأسلوب الإنتاج الفني، لموجة الأغاني الهابطة التي ظهرت في حقبتي الثمانينيات والتسعينيات، "افهم أصول اللعبة" هكذا يقول زيكو لسيف. كذلك للإعلام "ما في من القنوات الرسمية تقبل تعرض لنا"، موحيا بنقد النظام السياسي نفسه. وحده زرياب في سكره يوجه النقد الصريح: "طز في كل التسميات"، في ظل أمنيته أن " نتقدم خطوة". لقد جاء كل ذلك في لغة بصرية موحية سعت لتعرية المنظومة، وصولا لمشهد الحمام بما فيه من إيحاء ما.

كما أن إيراد المخرج مشاهد واقعية، تصويرية، تسجيلية، جعلت من الفضاء العام حاضنة لهذا النقد، 

مثل هلو افريقا الأغنية الشهيرة التي تحدثت عن نهاية الأبرتهايد، والتي تم إيرادها لإثبات الطبقية التي يعيشها المجتمع، والتي جزء من همومه. ومشاهد ايام عالم الفيديو، واختيار فيلم ":الدكتورة منال ترقص"، دمزية للتحولات الاجتماعية.

الفيلم الدرامي، الذي احتوى على استعراضات غنائية، أداها ولحنها الفنان عمرو دياب، بطل الفيلم،والتي تم توظيفها بذكاء، حسب بنية أحداث الفيلم: "رصيف نمرة خمسة" بعد اللقاء مع زرياب، و"بس انت تغني واحنا معاك" بعد الاشتراك في المسابقة الغنائية للمعاقين، "يا دنا" في موقف اتفاؤل"، و"ياخواتي عليه" في مشهد غيرة الشباب"، و"تعرف بس انا ليه".. و"انا حر" بعد المشاركة في الاحتفال، واختيار البسطاء للغناء معهم خارج الفيلا. و"حتمرد ع الوضع الحالي" و"ايس كريم في دسمبر"، أغنية المشهد الأخير التي لخصت تحدي الشباب.

وأخيرا لعل الانتقال من النيل والسماء في القاهرة الى البحر والسماء في الاسكندرية، دلالة اللجوء الى الماء، بما تحمل اسكندرية من انفتاح وتعددية؛ فمعظم الأحياء على الكورنيش تحمل أسماء خواجاتية.. حتى أن اختيار جليم في اسم الفيلم لم يأت من فراغ أو مجرد محسن بديعي.