• 1 تموز 2024
  • ثقافيات

 

بقلم : الباحث الشيخ مازن اهرام 

 

سِير الأولين صارت عبرة للآخرين لكي يرى الإنسان العبر التي حصلت لغيره فيعتبر ويطالع حديث الأمم السالفة وما جرى لهم

 فسبحان من جعل حديث الأولين عبرة لقوم آخرين فمن تلك العبر الحكايات التي تُسمى ألف ليلة وليلة وما فيها من الغرائب والأمثال والعبر والمواعظ ولا تزال كلمات شهرزاد سردية تأخذ المتلقي أطواراً متتالية من خلال مساحات جمالية خالصة سردية سيميائية تتخذ أشكالاً تعج بالدلالات القيمية وبالعبارات المرئية نابضة متدفقة بالإدراك الحسي الذي ينغمس فيه الجسد بصريا يؤنس الروح مولدا وتبقى الذاكرة تدق في عالم النسيان

"بلغني أيها الملك السعيد، ذو الرأي الرشيد ..."، التي استهلت بها حكاياتها وأساطيرها للملك "شهريار"، حاضرة بقوة على مدار قرون في الذاكرتين العربية والغربية، يرددها القراء والمتخصصون حال سردهم لقصص جمعها كتاب أسطوري يحمل اسم "ألف ليلة وليلة"، أسهم في تشكيل الفكر العربي والغربي ولفت الانتباه إلى دراسة الشرق وطبائعه، كما وضع اللبنة الأولى لتأسيس علم 

"الاستشراق". 

يعد كتاب ألف ليلة وليلة من أهم الكتب التراثية التي مثلت جزءا من الموروث الثقافي والشعبي العربي، امتزج فيها الواقع بالأسطورة، في سرد قصص مستوحاة من التاريخ والعادات وأخبار الملوك وعامة الناس، واللصوص والجن، والخرافات فضلا عن قصص جاءت على ألسنة الحيوانات تحتوي جميعها على قصص خيالية أسطورية بأبطال تشبيهية من الطيور والحيوانات ومن الشخصيات البارزة التي يدور حولها أحداث الكتاب هي شخصية الأسد الذي يلعب دور الملك وخادمه الثور (شتربه) بالإضافة إلى اثنين من حيوان ابن آوى وهما كليلة ودمنة.

وتخلق شهرزاد احساسًا من الانتظار القلق، إذ أن نهاية الحكاية لا تتطابق مع نهاية الليلة، وهكذا على الملك أن يترقب، كل فجر، استكمال الشمس لمسيرتها اليومية وما أن تنتهي الحكاية حتى تبدأ أخرى جديدة بوصفها أكثر جمالًا وعجائبية من سابقتها. «هكذا تمنح شهرزاد نفسها في الوقت الذي تتهرب فيه. تَعدُ بالمتعة ثم تؤجلها 

 وحكايتنا تشابهت زمناً سرمدياً كألف ليلة وليلة بل فاقت سنوات عجاف 

ثمّة سؤال عريض حقّاً أعرف العرب القصّة؟ ومن هؤلاء مَن وجد لها في تراثنا العربيّ جذوراً كألف ليلة وليلة

تلك السير الشعبيّة والمقامات والنوادر والقصص الدينيّ والتاريخيّ. 

 ومنهم مَن أنكر علينا هذه الجذور الأصيلة، وردّ أصول القصّة العربيّة إلى الغرب، وادّعى أنّنا منذ أوائل القرن الماضي أخذنا نقتبسها من الغرب عن طريق الترجمة والتعريب تارةً أو المحاكاة والتقليد تارةً أخرى 

ما زالت الجداريات شاهداً في إسبانية مدينة طارق بن زياد وقصر الحمراء وأُمهات الأسفار التي تُنبئ عن الحضارة المورثة كابراً عن كابر!!

 تناسوا برتقال يافا الذي يُصدر إلى دول العالم ومينا حيفا الذي ترسوا إليه البواخر عبر البحر مُحملةً بشتى الخيرات  وسور عكا حجارته تروي سرديات قاهرة نابليون ومدينه الناصرة فيها بُشرت مريم العذراء بحملها بالسيد المسيح وبها عاش وترعرع و مئذنة الجامع الأبيض في الرملة ومدينة اللد عاصمة دولة فلسطين القديمة، وفي عام 636 ميلاديا تم اتخاذها عاصمة للجند من قبل عمرو بن العاص  ومدينة الخليل اشتهرت بتشريف وقدوم سيدنا ابراهيم عليه السلام اليها حيث توفي و دفن فيها و اصبحت المدينة تعرف اليوم باسم "خليل الرحمن" نسبة الى جد الانبياء ابراهيم عليه السلام

 والمجدل عسقلان لها مكانة دينية عند المسلمين إذ ذكرت في الحديث النبوي، وذلك في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "أول هذا الأمر نبوة ورحمة ثم يكون خلافة ورحمة ثم يكون ملكًا ورحمة ثم يكون إمارة ورحمة ثم يتكادمون عليه تكادم الحمر فعليكم بالجهاد وإن أفضل جهادكم الرباط وإن أفضل رباطكم عسقلان"  

 وتلك مدُن فلسطين منها من قصصنا عليك أي أنبأناك بأخبارهم وما لقوا من قومهم ومنهم من لم نقصص عليك ولكل مدينة حكاية وقصة بل لكل قرية ذِكرى 

اليوم غزة على الحافة تماماً، هي لحظات ما قبل السقوط أو التحليق، أهل فلسطين بدأ يدرك أنه يقف عند مفترق طرق، تلتقي عنده كل الأقدار الممكنة، أقدار قد تقوده إلى الانعتاق من طوق الاستبداد والتحرر من قبضة الفقر والفاقة لبناء دولة تضاهي العالم عدالة وقوة، وأقدار أخرى قد تعيده مجدداً إلى سنين البؤس وحظائر الطاعة

 تهوى الأفئدة اليوم إلى فلسطين قاطبة تتسمر العيون أمام شاشات التلفاز وتأتي الأخبار مُتتابعة، أحداث تُطوى وأحداث تتعاقب   وترتقي أعداد الضحايا ناهيك عن الخسف والنسف والدمار والفناء والعالم انقسم إلى فسطاتين أحدهم أجزل العطاء بالدعم والسلاح وآلة الدمار وهيمنة مجلس اللمم فَٱسْتَكْبَرُواْ فِى ٱلْأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ۖ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ۖ وَكَانُواْ بِـَٔايَٰتِنَا يَجْحَدُونَ

 وفريق آخر لم يقوى على أن يَنْبَسْ بِبِنْتٍ شَفَةٍ   نيام كأهل الكهف شَرَو ْضمائرهم بِثَمَنٍ بَخْسٍۢ دَرَٰهِمَ معدودة ونسوا حينئذ أدرك الثور الاحمر ان الاسد قد خدعه   فقال نادما   وهو بين انياب الاسد اكلت يوم اكل الثور الابيض!

 وصار ما قاله الثور الاحمر مثلا يضرب لبيان ان الاتحاد قوة وان التفرقة ضعف   كما يضرب لمن يعطي غيره الفرصة كي ينال منه وعلى هذا الاساس سياسة (مزق تسد) التي اتبعها الانجليز بالوعد المشؤوم والتي عرفت فيما بعد باسم وعد بلفور، أول خطوة يتخذها الغرب لإقامة كيان على تراب فلسطين. وقد قطعت فيها الحكومة البريطانية تعهدا بإقامة دولة للغرباء في فلسطين والهيمنة على بلاد المسلمين

التجربة البشرية في كل زمان ومكان هي مزيج من النجاح والفشل، والانتصارات والانكسارات، والدول في تجربتهم ليسوا بمعزل عن هذه القاعدة، فهذه سنة من سنن الله في الاجتماع البشري قال الله تعالى 

قال تعالى﴿ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ﴾[آل عمران: 140 

عندما تتحدث عن التداول فإنه يعني انتقال أمرٍ ما من يدٍ إلى آخرى وتحول من حالٍ إلى حال وهذه القضية من سنن الله وأهل فلسطين مجموعة من البشر، تجري عليهم سنن الله، كما تجري على غيرهم من الأمم وهذا ما توحيه كلمة (الناس) أي أن هذه سنة عامة مطردة بين البشر بغض النظر عن الإيمان والكفر! فإن سنن الله لا تُحابي مسلما ولا غير مسلم، فمَن حفِظها حفِظته، ومَن تجاوزها تجاوزته   وقد بين مؤسس علم العمران البشري ابن خلدون هذا المعنى، حيث اعتبر أن للدولة عمرا مثل الكائن الحي تماما، فنطالع في مقدمته هذا العنوان: ويستشهد على ذلك بقوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34]، وبقوله تعالى   {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الأنبياء: 11]  وإن كان ابن خلدون قد تجاوز تقرير المبدأ إلى تحديد الحد الأقصى لأعمار الدول بمائة وعشرين سنة كثرت أو قلت فالعدل أساس الحكم 

يُقال بأن الشدائد تكشف عن معادن الناس ومكنونات أنفسهم، وقد روي عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه   بأنّه قال:

 "ما يكنّه القلب تظهره فلتات اللسان". ولا شك بأنّ العالم بأسره، وليس منطقتنا فحسب، يمرّ بفترة عصيبة قد تفضي إلى انفراج قريب أو مرحلة أشدّ صعوبة وضنكاً، وهذا ما ستكشفه لنا الأيام"وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ" سنن الله التداول: من السنن الربانية سنة التدافع، قال الله تعالى:

 {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [سورة البقرة: آية251]  

وقال: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [سورة الحج: آية40].

ومن هنا فإن العلو في الأرض لا ينحصر في شعب دون شعب، ولا في قوم دون قوم، {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [سورة آل عمران: آية140]، 

إن المداولة توحي بالحركة الدائمة وبالتجدد وبالأمل، وتقرر أن الأيام ليست ملكًا لأحد، ومن ثم لا داعي لليأس والهزيمة، فمن هم في القمة ستنـزل بهم حركة الأيام إلى الحضيض، ومن هم في القاع الآن ستصعد بهم الحركة نفسها إلى القمة، إن المداولة القرآنية تحمل كافة جوانب إيجابيتها التاريخية: حركة العالم المستمرة، وتمخّض الصراع الفعال، وديمومة الأمل البشري الذي يرفض الحزن والهوان، ولقد آمن كثير من المؤرخين وفلاسفة الحضارة بظاهرة التعاقب الحضاري، حتى غدت عندهم حقيقة ثابتة لا مراء فيها، والحق أنها قاعدة يجب أن تكون متفقًا عليها، وهي سنة الله في خلقه، وهذا أمر ثابت منذ كان للحضارة وجود، وإلا لكانت الإنسانية عرفت حضارة واحدة، فظلت قائمة منذ الأزل إلى ما شاء الله، ثم عاشت الإنسانية في ظلام. فتعاقب الحضارات والأمم والتبدل بين القوة والضعف على مسرح التاريخ؛ شاهد على سنة الله في خلقه 

شروط الاستخلاف في الأرض: إن السنن الخاصة بقيام الأمم وزوالها من أهم ما نقرأه   في القرآن الكريم في هذا الباب، وهي من أهم ما يحتاجه المجتمع المسلم اليوم، نظرا للأفكار والتصورات الخاطئة التي امتلأت بها عقول البعض.

والخلاصة إن غداً لناظره قريب