• 23 تشرين الثاني 2024
  • ثقافيات

 

بقلم : محمد تركي ربيعو

 

لاحظت فيرجيينا وولف في سياق دراستها للسير الذاتية، أن لكل سيرة ألف وجه ووجه. وربما هذه الملاحظة تنطبق على عدد كبير من السير الذاتية، ومن بينها سيرة المؤرخ الاسرائيلي المعروف آفي شلايم المترجمة حديثا للعربية بعنوان «العوالم الثلاثة.. مذكرات يهودي ـ عربي»، منشورات تكوين، ترجمة علي عبد الأمير صالح. إذ سيلاحظ القارئ في هذه السيرة، أنها مليئة بالأبواب والمحطات المتنوعة. لكن أكثر ما يلفت النظر هي فترة الطفولة التي عاشها هذا المؤرخ المعروف. فخلال فترة الخمسينيات، كان هذا الطفل اليهودي ـ العراقي شاهدا على واحد من أهم الأحداث التي عرفتها منطقة الشرق الأوسط في القرن العشرين، والمتمثل بإقامة دولة إسرائيل عام 1948، وهجرة مئات الآلاف من اليهود إليها. هذه المحطة في حياة شلايم، قد تبدو الأهم في سيرته، خاصة أنها يبدو قد آثرت فيه، ودفعته لاحقا ليصبح من أهم المؤرخين اليهود المفككيين للسرديات الصهيونية.
ولعل ما جعلنا نركز في مقالنا هذا على فترة الطفولة، أن هناك اهتماما واسعا اليوم في حقول التاريخ بمسألة ذاكرة الطفولة، لكونها باتت تكشف لنا أيضا عن صور اجتماعية لا نراها أحيانا في ذكريات وتواريخ أخرى.
ولد شلايم في بغداد عام 1945 لأسرة يهودية، قبل ثلاثة أعوام من ولادة دولة إسرائيل. كان جد أمه من رعايا بريطانيا بالولادة انتقل من بومباي إلى العراق مع والديه حين كان في سن السادسة عشرة. عمل لاحقا مترجماً لصالح القنصلية البريطانية في بغداد. جند الجيش البريطاني اثنين من أبنائه الذكور الثلاثة خلال الحرب العالمية الثانية، وخدما بصفة ضابطين في سلك الاستخبارات. عاشت الأسرة كلها في العراق. من بين سائر الطوائف اليهودية في الإمبراطورية العثمانية، كانت الطائفة المقيمة في بلاد ما بين النهرين هي الأكثر اندماجا في المجتمع المحليِ.
وحين قدم البريطانيون للعراق، وجدوا طائفةً يهودية نشيطة يقودها حاخام رئيس ولجانٌ من علية القوم؛ والتجار الذين سيطروا على قسمٍ كبير من تجارة الاستيراد والتصدير، بالإضافة إلى طبقة وسطى عملت في مهن مثل الطب والصيدلة، ويهود فقراء عملوا في مهن حرفية مثل السبَّاكين، الكهربائيين، النجارين، الإسكافيين، الخياطين والحلَّاقين. يذكر شلايم أن والداه لطالما امتلكا إحساسا قويًا بالانتماء، وارتباطا عاطفيًا عميقا بالعراق.
كان لوالديه أسرتان ممتدتان، وأصدقاء كثيرون، وشبكة علاقات قوية، وثروة، ومكانة اجتماعية راقية. بدتْ فكرةُ مغادرة البلاد إلى الأبد غير واردةٍ قبل ولادة إسرائيل والحرب العربية ـ الإسرائيلية، وعلى صعيد الحياة اليومية نرى أن العائلة كانت محافظة، بيتها يتوافق مع شروط الشريعة اليهودية، الدجاج الذي كانوا يأكلونه يُذبح بواسطة «شوهيت»، جزار، وفقا للطَّقس اليهودي في ذبح الحيوانات. في ليلة الجمعة، كنا نؤدي الـ»كدوش»، وهي صلاة ومُبارَكة يتلوها أبي كونه ربَّ الأسرة، مع النَّبيذ الحلو في كأس من الفضة، وعند وجبة الغداء الرئيسية الاحتفالية التقليدية، كي يبشروا باقتراب السَّبت المقدس.
تبدو في هذه الفترة بعض الأسماء اليهودية عراقيةً – عربية غير أنها لم تكن إسلامية حصرا، مثل مسعودة، سعيدة، صالح، حبيبة، موزلي وفؤاد. بعض الأسماء كانت يهوديةً بوضوح مثل مائير، ميناشي، إيلياهو، عزرا، شاؤول وحسقيل. بينما بدت اسماء شقيقاته، ليديا وڤيلما، واسم خاله ألفريد، كانت خليطا نموذجيا لأسرة يهودية – عراقية تلقَّتْ تعليمها في مدارس أجنبية. كانت الأندية مظهرٌ آخر من مظاهر حياتهم الاجتماعية، وكان هناك سبعة أو ثمانية أندية يهودية في بغداد. بدا المجتمع اليهودي تسلسليا طبقيا إلى حد ما، وهو ما كان تعكسه أجواء نادي «الزَّوراء» مثلا، الذي لم يكن يسمح لليهود الفقراء بالدخول إليه.
مع أحداث النكبة 1948، أخذت عائلة شلايم اليهودية كباقي العائلات اليهودية الأخرى تعاني من تصاعد الغضب ضد اليهود، على المستويين الشعبي والرسمي. مثَّلتْ الحرب من أجل فلسطين نقطة انعطاف رئيسية نحو الأسوأ في ما يتعلق بالعلاقات بين المسلمين واليهود. تذكر والدته أنّ ولادة إسرائيل مثلت نقطة محورية في أزمة يهود العراق. حين خُلِقت إسرائيل «انقلبَ كلُّ شيءٍ رأسا على عقب. هنا بدأت المشكلة. كان هناك استفزاز واضطهاد. لقد عانينا كثيرا».

الخروج من الجنة..
كانت اليهودية العراقية فيوليت شماس قد تحدثت عن قصة مغادرتها للعراق وهي شابة آنذاك، وصفت فيوليت هذه المغادرة بأنها أقرب ما تكون للخروج من الجنة. الشيء ذاته نشعر به في مذكرات شلايم، فخلال أعوام 1950-1951 تركت الطائفة بأسرها تقريبا وطنها القديم جدا وراءها، وشقت طريقها إلى دولة إسرائيل اليافعة والفقيرة. وهذا الانتقال لم يكن سهلا، بل خلق ندوبا نفسية وعاطفية لا تمحى كما يذكر، فقد واجهوا ثقافةً مختلفةً وقيما مغايرةً ولغةً أجنبيةً غريبةً. وعادة ما تصف تصف السرديَّة الصهيونية الرسمية النزوحَ باعتباره عملا إراديا سببه العداء المحليُّ، مؤطرةً إياه بمزاعم حول بيئة معاداة السَّامية المتأصلة في الإسلام، في حين يؤكد شلايم أن الغالبية العظمى من المهاجرين لم يرغبوا في مغادرة العراق؛ ولا صلة أيديولوجية لهم بالصهيونية؛ وأنهم ضحايا الأفعال الصهيونية التي كانت ترمي إلى تخويفهم كي يتخلَّوا عن وطنهم الأصلي.

الوصول إلى حيفا
كان عمر إسرائيل عامين لا غير حين رست عائلة شلايم على شاطئها. أيُّ نوع من البلدان كانت إسرائيل؟ ثمة جواب واضح ألا وهو إنه بلد المهاجرين الجُدد، بلد يهود الشتات العالمي، وثقافات متباينة ولغات متعددة. بالنسبة لوالدته، كانت هذه الهجرة بمثابة نقلة من بيئة بغدادية – إنكليزية – فرنسية إلى عالم اشتراكي أشكنازي لم تفهم قواعده وشيفراته. ما يذكره جيدا أن تجربة يهود العراق الحقيقية، عند وصولهم إلى إسرائيل، بدت سيئة جدا. ففي المطار، رشُّوا بمبيد قاتل الحشرات (DDT) لتعقيمهم كما لو كانوا حيواناتٍ. كانت تجربةً بالغة الإذلال. ثمَّ أخذوهم إلى المعسكرات المؤقتة، أو المخيمات المؤقتة، أو معسكرات العبور، والتي كانت تضم بعض الخيم أو بيوت من الحديد. وهناك كلفوا ببعض المهام مثل اقتلاع الأعشاب الضارة على طول الطرق العامة. أمَّا المصرفيون والمحامون والأطباء والمحترفون الآخرون، فقد أُجبروا على استجداء أعمال بسيطة في سبيل إكمال حياتهم. أما المهاجرون الذين لم يمتلكوا مؤهلات مهنية ولا موارد مالية، فقد أسكنوا في مستوطنات زراعية وبلدات تطوير في أطراف المدن. نادرا ما كانوا يستشارون، وعادةً ما يُكذَب عليهم بخصوص موقع منازلهم الجديدة، كما يذكر أنهم أجبروا على تغيير أسمائهم إلى صياغة يهودية، فأصبح اسم امه عايدة بدلا من سعيدة، وأصبح هو أفراهام بدلا من أبراهام.
يتوقف شلايم عند يومياته في المدرسة، ومما يذكره أن مدرسته لم تخفِ موقفها السلبي تجاه الأطفال الشرقيين، إذ اعتقدت إلى جانب خبراء إسرائيليين كثر، أن التعليم يجب أن يبقى حصرا على اليهود الأوروبيين، ولذلك غالبا ما كانت تتعامل هي ومعظم الأساتذة اليهود الأوروبيين بشيءٍ من الاحتقار لليهود الآسيويين والشمال افريقيين كونهم عِرقا أدنى منزلةً أصلا. كما اعتقدوا أن أداءَ بعض هؤلاء الشرقيين السيئ في المدرسة يعكس ذكاءً فطريا منخفضا بدلا من عوامل اجتماعية – اقتصادية خارجية، ولذلك من الأفضل لهم التوجه نحو المدارس المهنية وسوق العمل، كي يدعموا التطوُّر الصناعي والزراعي للبلاد.
يتذكر شلايم أن مَنهج المدرسة بأسره كان معداً للفخر بالانتماء إلى الأمة الإسرائيلية والثقة بعدالة قضيتها. التاريخ هو الدرس الرئيسي، إلا أنه ليس الوحيد الذي مرر من خلاله هذا البرنامج الأيديولوجي. وكان الحيز الجغرافي لهذا التاريخ مقتصرا إلى حد كبير على التجربة اليهودية في أوروبا، لأنه عمليا لم يكن هناك شيء عن تاريخ اليهود في البلدان العربية والإسلامية. ومن خلال هذا التوجه بدت وكأن هناك رسالة مفادها أن اسرائيل ليست سوى بؤرة استيطانية أوروبية في الشرق الأوسط. هكذا تخيَّلَ هِرتزل الدولة اليهودية في كتابه الشهير. كما أنه الأساس الذي استندت إليه بريطانيا في منحها وعد بلفور.
بعد فترة الطفولة، تمكن شلايم بمساعدة والدته من مغادرة إسرائيل نحو بريطانيا، وهناك أكمل دراسته في أكسفورد، ومما يذكره هنا أنه عندما غادر إسرائيل شعر لأول مرة في حياته بشعورٍ عميقٍ بالتحرر «أنا وحدي الآن، متحرر من قيود المدرسة وضغوط المجتمع الذي يُهيمن عليه الأشكينازيون. كما أحسست بأني متحرر من التعقيدات السيكولوجية للأسرة – وهذا شعور طبيعي لمراهق. كنتُ في غاية الحماس. من غير الواضح إلامَ ستؤول الرحلة، وكيف ستتطور، ولكن في الوقت الراهن سَعدتُ بحريتي التي حصلت عليها للتو».

 عن القدس العربي