- 30 تشرين الثاني 2024
- ثقافيات
بقلم : تحسين يقين
قث في تجريب سرديّ إبداعي، غ رح كاتبنا العربي الكبير محمود شقير، الحالة الشعورية التي تنتاب شخصية روايته الرئيسية، خاصة في تذكرها لشخصيات أدبية، كون الأدب من الحياة، فتجعل القارئ في حياته يستعيد ما مرّ به من شخصيات من الحياة، ومن الكتب والأفلام والمسرحيات وغيرها، فتصير الحياة من الأدب، بتأثيره العميق في تكوين الإنسان، الذي يصير، بوعيه أو لا وعيه، مزيجا من الأمرين، حياته من جهة، و حيوات الآخرين من الحياة، وتلك القادمة من بطون الكتب أو السينما.
ففي رحلة الإنسان، يعيش الإنسان رحلته، ورحلات الآخرين المقربين، حتى إنه يستحضرهم، ويستعديهم ويستعيدهم، في أحوال متشابهة، أو لكي يقوى بهم. فإذا كان هذا حال القارئ، أو يتعرض للفنون كالسينما والمسرح، فكيف بالكاتب، دائم القراءة، الذي لعله الأكثر اقترابا من عوالم الأدب والأدباء!
فماذا يعني أن يورد الكاتب العربي الكبير محمود شقير، حوالي 35 مرة، إشارات وعبارات، وحوارات، كما في ذكره المستمر من أول الرواية حتى آخرها، لكل من شخصيات رواية "الجميلات النائمات" للكاتب الياباني ياسوناري كاواباتا، ورواية "ذكريات عن عاهراتي الحزينات" للكاتب الكولومبي غابرييل غارثيا ماركيز، كذلك لخليل السكاكيني وزوجته سلطانة (والكتاب طبعا) ؟ تكرار الفعل يعني ظاهرة، وهي تظهر بجلاء هنا، ما يعني أن الكاتب شقير، قد تأثر بتلك الأعمال، وبالأحرى، بمضامينها المتحدثة عن علاقة كبار السن بالحياة، وبالنساء بشكل خاص، كأبرز الأسباب الحيوية في حياة الرجال.
لقد وقع الكاتب الآن، تحت تأثير ما قرأ، لعلاقة المشابهة، بين شخصية محمد الأصغر، وبين ما تأثر به من رواية الياباني شرقا، والكولومبي غربا: التعلق بالحياة، وإن كان بالطبع سلك كل مبدع طريقا بما ينسجم مع مكانة اجتماعيا وسياسيا.
وعليه فقد ظهر: - خليل السكاكيني وزوجته سلطانة 6 مرات - رواية "الجميلات النائمات" للكاتب الياباني ياسوناري كاواباتا، ورواية "ذكريات عن عاهراتي الحزينات" للكاتب الكولومبي غابرييل غارثيا ماركيز 26 مرة وأكثر.
وبالطبع فإن التركيز كان على الروايتين. ما الذي دفع مثلا إيغوشي السبعيني بطل رواية "الجميلات النائمات"، الى قضاء ليلة بصحبة فتاة صغيرة عذراء عارية، يتم تنويمها بمخدر. وهي ليست يقظة، كون الفتاة مخدرة، فما الذي يستمتع به كبير السن من رؤية الفتاة، ومجرد الاستلقاء ليس أكثر.
كذلك بطل رواية ماركيز. ما الذي أراده المؤلفان من تصرف كبيري السن، في "الجميلات النائمات" وعاهراتي الحزينات"؟ لربما ما دفعهما، هو ما دفع محمد الأصغر المقدسي، إذ أنه بعد أن ترمّل، لبى إغراء قريبه رهوان، فزارا بيت فريال، الذي تديره لبيع المتعة، فقام بتقليد تنويم "سميرة"، حيث يستلقي قربها، محاكيا فعل الياباني والكولومبي، ليكتشف أن سمية لم تكن نائمة، بل كانت ساخرة صامتة متعجبة، ربما للإيحاء بما يكمن داخل النفس: الرغبة، وإن لم يكن لها روافع.
وبالطبع فإن ذلك تجلى في الرواية واقعيا ورمزيا، في الخلاص الوطني. إن ذلك بلا شك، يشكل ليس فقط ظاهرة هنا، بل يشكل ظاهرة في الأدب العربي، لا تقف عند حدّ مجرد الاقتباس، بل إنه تم توظيف الاقتباس بطريقة إبداعية سيكولوجية، جعلت النص حيويا ومرحا، بما اشتملت عليه من فانتازيا رمزية.
سناء، ثم اسمهان، ثم كوثر، ثم سميرة وفريال، تلك شخصيات شقير في "منزل الذكريات"، أما سناء فهي الزوجة والحبيبة، التي ما أن يأتي على ذكرها، إلا ونراها في الزمن الماضي، حيث يكون الحديث عنها بعد رحيلها.
يرتبط بذلك حضور سناء من الذاكرة الى واقع حياة محمد الأصغر، وهو حضور يخف بعد زواجه من أسمهان، ابنة الخمسين عاما، التي بظروف معينة تصير زوجته، ليستعيد محمد الأصغر من أحبها وهو فتى، ألا وهي كوثر طالبة المدرسة، تلك القصة البريئة، التي لم تكن إلا بضع كلمات بينهما تقال على حذر وخوف.
خلال ذلك، تظهر سميرة، كأنيسة محتملة لتملأ فراغ الراحلة سناء، من جهة، وكملجأ له، يستعيد من خلاله ما أمكنه من حياة، أكثر ما هو رغبة جسد فقط، لجسد أصلا ما عاد في تلك اللياقة والاشتهاء.
يتذكر سناء، روحا وجسدا، يستحضرها، فيشعر بالحيوية، لدرجة ترك "دش الماء" مفتوحا، وهو يتذكر-ويتخيل جسدها تحت الماء، حين كان يأتيها بالمنشفة. محمد الأصغر، ثمانيني، تتوفى زوجته سناء، يحزن ويتذكرها، ثم ما يلبث أن يستعيد شعوره الذكوري، تحت تأثير قريبه رهوان، فيصل الى امرأة لمجرد الوجود، لا الفعل نفسه.
يلتقي بجارته أسمهان، بطريقة ما ينجح أخوها بتزويجه منها، طمعا بالبيت وقطعة أرض، حيث يتم تسجيلهما باسمه، كونه الوصي على أخته. يتدخل الأزعر جميحان في حياة المثقف والكاتب محمد الأصغر، فيطلب منه الصلاة في المسجد وتأدية العمرة، لنفي تهمة الشيوعية عنه، وصولا لتطليق أخته منه، حيث يستولي على البيت والأرض.
في هذه الأثناء يعتقل حفيد أخ محمد الأصغر، وينقل له رهوان أن مخابرات الاحتلال تراقبه كونه يحرّض على الاحتلال. تلك هي السردية، العادية، التي أبدع عنها الكاتب بأسلوبه في استدعاء الشخوص من الكتب، ومن العالم الآخر: سناء. ذلك هو الإطار في الشكل والمضمون الإنساني-الوجودي، الذي يؤكد على المنحى الإبداعي لدى محمود شقير، الذي اختار دوما ألا يعيد نفسه، مذكرنا بأنه، رغم يساريته، فإنه لم ينطلق أيديولوجيا في الكتابة، فجاء نص نوفيلا "منزل الذكريات" سردا تجريبيا، بدأ يظهر لديه بشكل خاص أواخر التسعينيات، خاصة في مجموعتيه القصصيتين: "صورة شاكيرا" و"ابنة خالتي كوندوليزا".
لعل الدافع وراء التجريب هنا، كان بسبب محاولة محمد الأصغر الثمانيني، القبض على جمرة الحياة التي تخف جذوتها، كأنها حالة زئبقية، يصعب الإمساك بها، وهو يغادر آخر نداءات الجسد، في مفارقة إنسانية، ما بين الجسد الشائخ، والروح الشابة، محبة الوطن والتنوير، من خلال دور الكتابة المستمرة.
فهو من جهة، كأنه في اقترابه من عوالم النساء، زواجا من اسمهان، أو علاقة مع سميرة (بائعة الهوى) يعيش حالة من شيخوخة الجسد، واستعادة زمن الشباب، في الوقت الذي ما زال يشعر بدوره مع جسد الوطن والفكر، وإن كان يجد معيقات للقيام بهذا الدور، أكان من الاحتلال، أو من نتائجه، من قوى عابثة مثلها جحيمان (أخ أسمهان زوجته الجديدة) مدعي التدين وهو الأبعد عن جوهره، وصولا الى الأمل باستعادة الدور في الصمود أمام مدهما الاستعماري من جهة، والانفلات من ناحية أخرى كما اختتم به الرواية: "أما جنود الاحتلال فقد ذابوا في ثنايا الليل مثل عصابة من لصوص أو مثل قطاع طرق نهابين. كنا أنا ورهوان نستقبل شمس ذلك النهار ونضحك باستمرار مثل طفلين خارجين لتوهما من متاهات العتمة إلى فضاء النور في رغبة جامحة واندفاع من أجل حياة كريمة مبرأة من القيود، وعلى مقربة منا وقفت أسمهان مبتسمة مشجعة، وقد تحررت من سطوة أخيها المجرم الشيطان. صفحة 176.
كان رهوان قد استضاف محمد الأصغر بعد سيطرة جحيمان عليه. والظن، بأن الكاتب على لسان محمد الأصغر، حتى ولو تقبل فكرة الشيخوخة وذبول الجسد، إلا أنه نفسيا لم يذبل، لذلك، فإن المصير لم يقف عند الجسد، بل عند النفس الرافضة للاحتلال و المنفلتين، فاحتفظ بحقه في تقرير المصير: مصيره ومصير اسمهان ورهوان وآخرين، في اختبار قوة الصمود باتجاه المقاومة، التي عبر عنها الفتى حفيد أخيه، الذي اعتقل على خلفية عمله الوطني في القدس، ما جعل المخابرات يقتحمون منزل رهوان، الذي يتم التحقيق معه، وعندما أفرج عنه زار محمد الأصغر وأعلمه بأن المخابرات يراقبونه "يعتقدون أنك تحرّض الشباب على المقاومة". كمحرّض للفتى على العمل الوطني.
ظهر ذلك في فصل "مخابرات"، صفحة 156. تحرر أسمهان من سطوة أخيها أمر ممكن، كما أنه من الممكن تحرر القدس والأرض المحتلة من الاحتلال. يزوج جميحان أخته، لمحمد الأصغر، بسبب حلمه بأخته (لربما هو إشارة للتواصل الاجتماعي)، بنية تسجيل البيت وقطعة أرض باسمه كونه الوصيّ عليها، ويسعى لطلاقها، بل وطرده من البيت، حيث يصير لاجئا في بيت قريبه رهوان عبد اللات قريبه.
وتصل بجحيمان الغطرسة، حين يجبر زوج أخته محمد الأصغر وزوجته على الذهاب الى العمرة، لنفي تهمة الشيوعية، فيضطر محمد الأصغر للموافقة، خشية من سطوة جحيمان الذي يقرر المصير هنا.
تقف شخصية جميحان كشخصية نقيضة لفكر محمد الأصغر الثمانيني. ف"جميحان" وأمثاله من الزعران المنفلتين، الذين خلق الاحتلال لهم حاضنة لهذا السلوك، كي يستخدمهم الاحتلال لتعكير الصفو المجتمعي في القدس.
أما محمد الأصغر الشيوعي النبيل، فهو يعرف طريقه في التحرر من الاحتلال، من خلال المقاومة الثقافية كقوة ناعمة ذات أثر عميق على الجيل الجديد. لذلك يظل خائفا على الكتب من أن يعبث بها جحيمان الجاهل، وهو ما تحدث به عن التنوير صفحة 159.
ولم يكن ليقتصر محمد الأصغر على اصطحاب (أو تذكر، أو محاورة) كل من الياباني والكولومبي، في مجال مغامرات الجسد، بل لقد تم تجاوز ذلك، الى مشاركتهما محمد الأصغر ما يعيشه تحت الاحتلال من معاناة، وما يعانيه من جحيمان، فيدلوان بدلويهما، لكنهما يختلفان؛ ففي حين يدعوه شيخ ماركيز الى الصبر، فإن شيخ "إيغوشي" يستغرب هذا التحمل. صفحة 102.
وكأن الكاتب أولا وأخيرا، يذكر بالزمن، وأثره، والمراحل المختلفة للإنسان، والتي تتميز فيها مرحلة الشباب بالانطلاق، فجاء ليذكّرهم "كأنهم لا يقرون بأنهم ذات يوم سيصبحون شيوخا يتوكؤون على عصا وعكازات" صفحة 114.
فنيا: تشكل لغة القاص والروائي محمود شقير حالة إبداع وحدها، بل ظاهرة أدبية عربية، كونها، منذ بدايات الكاتب، امتلكت اللغة السردية، كما ينبغي للسرد أن يكون، دون أن يثقله بلغة كلاسيكية وجماليات تشتت السرد.
وقد جاءت نوفيلا "منزل الذكريات"، في هذا السياق، وبذلك كانت رافعة سردية للمضمون. امتازت النوفيلا بالوصف، الملائم للسياق، وهو وصف واقعي في رسم الشخصيات، كذلك وصف شفاف كما في وصف الجسد.
والمميز هنا أننا إزاء لغة الكاتب، التي تدل عليه، ولبيس فقد إيراد أسماء وأماكن حضرت في أعمال أدبية سابقة. كان لحجم الفصول أثر يلائم التكثيف من ناحية، ومنح عناوين للقارئ، حيث يمكن حذف أسماء الفصول، بدون التأثير على القراءة الممتعة، لكن لربما يكون لها دور في إدخال القارئ الى أجواء الفصول.
سرديا، منحت تقنية السرد،ما بين الواقعي، والتخيلي-الفانتازي، حيوية للنص وتشويقا؛ ففي الوقت الذي يمكن مثلا قراءة النص الواقعي على حده، إن حذفنا ما يتعلق بما ورد من شخصيات الياباني كاواباتا والكولومبي وماركيز، والذي يمكن أن يكون جميلا، فإن إيرادهما هنا، عنى أمرا عميقا، بكيفية عيش الشيخ محمد الأصغر، الذي وجد نفسه وحيدا، غير متخلص تماما من رغباته، حيث نجده يستحضر شخصيات أدبية من والواقع العمري نفسه، والتي يمكن أن تكون شخصيات سينمائية لدى آخرين. نوع من مقاومة الشعور بالوحدة، تعمّق ليس لدى محمد الأصغر فقط، بل لدينا، في فهم إنساني للنصوص الأدبية، والتي أصلا هي قادمة من حيوات الآخرين، ونحن منهم ومنهن، ما يجعلنا نقبل على الحياة، والوطن معا، باتجاه تحرره. كان للمفارقة الساخرة دور حيويّ، كما في طلب جميحان الأزعر من محمد الأصغر، الوطني الخلوق، بتأدية الصلاة وأداء العمرة دفعا لتهمة الشيوعية عنه.
كذلك في استنكاره استضافة عجوزيّ الروايتين، بل حتى الأحلام. إن ربط السرد الروائي والأدبي بشكل عام بحيوية الجسد، هو مجال للتحليل النفسي، الذي يمكن للمختصين تفسيره، سواء أكان من خلال الشخصيات المروية، أو من خلال الرواة.
في "منزل الذكريات"، يتجلى الإبداع كأبدع ما يكون، حيث يصير الأسلوب مضمونا، بل ورافعة سحرية. *صدرت النوفيلا عام عن دار نوفل 2024 ووقعت في 176 صفحة.