- 10 كانون الثاني 2025
- ثقافيات
بقلم : أ.د. زيدان كفافي*
انشغل الناس خلال الأيام ، بل الأشهر الماضية، بخرائط للأرض التي وعدها الله لهم "يهوه" لبني اسرائيل، ورفع رئيس وزراء المستعمرة "اسرائيل نتنياهو" دون خجل خارطة للمنطقة الممتدة بين النيل والفرات زاعماً أنها حدود "دولة إسرائيل". وبدا لي وكأن أهلنا يسمعون أو يقرؤون هذه المعلومة للمرة الأولى، علماً أن علم "دولة اسرائيل" يوضح هذا. كذلك صدر في عدد 7 تشرين أول سنة 2018م من مجلة :
“Global Journal of Archaeology and Anthropology”
مقالة عنوانها:
“When Map Becomes Territory: Finding Ancient Israel in the Modern Age”،
ووجدت بعد قرائتها والتمعن بمضمونها أن المعلومات المذكورة فيها تنسحب على ما تفعله إسرائيل هذه الأيام من ضم بغير حق لأراضي فلسطين التاريخية، وذلك اعتماداً على قوتها العسكرية، وضعف وتمزق العالم العربي. كما وأنها، أي اسرائيل، ومن أجل تحقيق أهدافها تطوع الحقائق التاريخية والدلائل الأثرية لتحقيق مآربها السياسية وتوسعها الجغرافي باستخدام تفسيرات يقدمها باحثون يرتكزون في تفسيراتهم على ما ذكر في النصوص التوراتية.
وأفضل مثال على هذا من أنهم نشروا وزعموا أنهم عثروا على قصر اسرائيلي في موقع تلول الذهب الواقع في مجرى نهر الزرقاء، ويبعد حوالي 8 كم إلى الشرق من بلدة دير علا دون الارتكاز على نتائج الحفريات الأثرية ، بل استخدموا الوصف الجغرافي والمكاني التوراتي. بل إن أقدم المكتشفات التي عثر عليها في الموقع تعود للقرن التاسع؟الثامن قبل الميلاد (وهي قليلة) وتخالف الإدعاء التوراتي أنها كانت من زمن "يعقوب"، وبناها "يربعام" في القرن العاشر. كما أن الموقع قد ازدهر بالفترة الهيللينسينة (حوالي 332 – 63 قبل الميلاد). وعلماً أنه عثر على مباني وتحصينات وشبائح حجرية منحوتة إلاّ أنها جميعاً لا تشير أو تثبت أنها اسرائيلية. وباعتقادي أن العمونيين هم من أسسوا هذا الموقع لمراقبة الطريق التجاري الذي ربط فلسطين والأغوار مع مناطق شرقي النهر. وقد قمت بمرافقة مساعد مدير دائرة الآثار العامة وتلفزيون "رؤيا" للموقع قبل أيام، ووجدنا أن بقايا المبنى لا تشير إلى ضخامة مبنى بمستوى قصر، حتى أن بعض الأبواب كانت قد أغلقت في العصور القديمة، مما يدل على أنه لم يكن ذو قيمة كبيرة.
الناظر للخارطة التي نشرها التوراتيون والاسرائيليون هذه الأيام، طبعوا عليها على أن حدود دولة إسرائيل تعددت نهر الأردن إلى شرقية، وأبعدت حدود الدولة العمونية إلى المنطقة الجبلية شرقاً. وهذا الأمر غير صحيح إذ أنني أشرفت وشاركت على الحفريات في مواقع تغطي المنطقة الواقعة للغرب من موقع "تلول الذهب" ، مثال: تل الحمة، تل دير علا، وتل داميا، وعثرنا في كل هذه المواقع آثاراً عمونية، مما يثبت أن حدود مملكة عمون وصلت إلى نهر الأردن.
الخارطة المزعومة
منذ تأسيس المدارس الأثرية التوراتية، وكان أولها في عام 1860 ميلادية، جاء الآثاريون الغربيون إلى بلادنا يحملون التوراة بيد والمعول بالأخرى Bible and Spade لإثبات صحة ما جاء فيها من معلومات عن إسرائيل وأهلها القدماء. أي بكلمة أخرى، البحث عن مواقع وبقايا أثرية يمكن نسبتها للإسرائيليين القدماء منذ خروجهم من مصر في نهاية الألف الثاني قبل الميلاد، حتى يبنى فوق هذه الآثار إسرائيل جديدة، ترفع علم أجدادهم الأوائل.
وبعد أن تحققت مآرب التوراتيين بإنشاء دولة إسرائيل بفلسطين التاريخية، وجب عليهم الآن تثبيت حدود هذه الدولة. ولتحقيق هذا المأرب غيروا منهجهم البحثي في القرن الحادي والعشرين، فانتقلوا من البحث عن المواقع الأثرية (التي يعدونها إسرائيلية) وتثبيتها على الخرائط، إلى رسم الحدود السياسية، أي وضع الخريطة السياسية. وحتى يتحقق لهم هذا وضعوا التوراة جانباً/ وذهبوا للبحث عن مكان يثبّتون فيه عَلَم إسرائيل القديمة، أي انتقلوا من التوراة والمعول (Bible and Spade) إلى العَلَم والمعول(Flag and Spade) . لكن وبنظرنا، كان من الأولى على الباحثين المتصهينين قبل أن يرسموا حدود إسرائيل الحالية، أن يعرّفوا لنا أولاً اسمي العلم والمكان "إسرائيل" حيثما ورد. فعلى الرغم من وجود هذا الاسم وكثرة تردده في الكتابات المعاصرة، إلاّ أن أحداً من الباحثين لم يقدم لنا حتى الآن تعريفاً مقنعاً Substantive definition. لقد ركز الباحثون التوراتيون جلّ اهتمامهم في دراسة الآثار الإسرائيلية على أمرين، هما:
1. العثور على مواقع تؤرخ للقرنين الثاني عشر والحادي عشر قبل الميلاد.
2. تحول المجتمع الإسرائيلي من مجتمع قَبَلي إلى آخر متحضر ومتمدن.
وكما نعلم فإن هذين الأمرين هما من أهم المسائل التي يحاول الباحثون فك عقدتهما، لخدمة تاريخ وأرض إسرائيل التوراتية. وحتى نخرج من هذا المأزق، فإنه لا بد لنا من تغيير منهج بحثنا وتفكيرنا حول هذا الموضوع خاصة، ودراسة آثار بلاد الشام، عامة.
برأينا إن الاعتماد على ما ورد في الكتاب المقدس من معلومات فقط يسبب إشكالية علمية كبيرة، تتجاوز مجرد التفسير الخاطئ لبعض الآثار المكتشفة.
وبرأينا أن مثل هذه الدراسة يجب أن لا توصف بأنها أثرية أو أنثروبولوجية، وإنما عقائدية مشتقة من أجندة دينية. وينبغي أن نؤكد أن هذا المنهج في تفسير الآثار لا يساعد على الإجابة على الأسئلة التي يطرحها الباحثون، بل على تحقيق الأجندات. إن من واجبنا كآثاريين، ودارسي ثقافات عالمية، ومفسرين لما كانت عليه الحياة في العصور القديمة، أن نعتمد على شواهد حقيقية وليست على أمنيات أيديولوجية، وتفسيرات دينية، يكتشف بها إسرائيل فنكلشتاين موقع إسرائيل على الأرض قبل أن يرسمها على الخارطة.
* باحث مستقل في الآثار