• 9 كانون أول 2020
  • نبض إيلياء

 

 كنت في المقالة السابقة قد دعوت الى حوار مقدسي داخلي صادق ، من اجل انقاذ ما يمكن إنقاذه من هذه المدينة الحبيبة المنكوبة ، ومن اجل المجتمع المقدسي المنهار الذي اصبح قاب قوسين او ادنى من الوصول الى قاع القاع .

 ولكن هذه الدعوة للحوار وقعت على اذان أصابها الصمم، وعلى قلوب عششت بها امراض لا شفاء منها ، ووقعت على عقول تحجرت عند مبدأ " انا ومن بعدي الطوفان" ومبدأ " لا مكان للحوار اما معي او ضدي " ومبدأ" المصالح أولا" وبالتالي فإنه رغم ان عدد القراء زاد عن المئة الف بكثير، الا ان ردود الفعل وصلت كانت ما بدون المئة بقليل، فرغم ان دعوة الحوار جاءت  بعد التشاور مع اشخاص في المدينة  والذي عللوا  هذه الدعوة للحوار بانها ستكون بمثابة رصاصة الانطلاق نحو تألف اجتماعي ونبذ العنف المجتمعي ، ومحبة الاخر ، وانهم سوف يحملون الدعوة الى مستويات أخرى ، الا انهم كانوا اول من تجاهلها، فكل ما لا يخدم المصالح الشخصية ملعون مرفوض منبوذ.

 وكما قال احدهم وهو صديق صدوق ، ان الحوار الوحيد المطروح حاليا في القدس هو حوار الطرشان ، حوار الذات ، بمعني ان الانسان لا يسمع الا نفسه، ولا يحاور الا نفسه لإقناع نفسه انه على حق ،أما ما نسمع في جلسات النقاش والندوات وخاصة لقاء من يطلقون على انهم المثقفين  فهي عبارة عن صراخ وحديث طرشان، كل واحد منا يريد ان يكذب الاخر  لا ان يتحاور معه ، ولا يريد ان يسمعه ، وانهى الصديق حواره معي بقوله : لقد تخلينا عن كل مبادئنا من اجل مصالحنا، لدرجة اننا نسينا من نحن!.

 ما علينا

 المهم ، ان هذه المقدمة كان لا بد منها للتأكد ان القدس  ليست بخير، وانها المطية السهلة للجميع للوصول الى أهدافهم التي بالتأكيد لا تصب بصالح القدس ، ولا لصالح أهلها الذي يعيش كالقطيع الذي فقد البوصلة ، الكل تسير باتجاه مختلف ، وان التقيا فبالصدفة ويحدث الاصطدام قبل الاستمرار في الضياع ، والجميع يستخدم شعار المصالح ، وكأن ميكافيلي كتبت مما كتبه خصيصا للعرب أينما تواجدوا في القدس وفي غيرها ، فأصبحت "الغاية تبرر الوسيلة"  حتى لو أدت الى التخلي عن كل المبادئ.

 فكيف تفسر ان يقوم عضو كنيست هو زعيم الحركة الإسلامية في إسرائيل بإنقاذ حكومة نتنياهو من السقوط، ورفضه التصويت لصالح قانون حل الكنيست ، هو قال ان المصالح العربية في إسرائيل تستدعى ان نكون مرنين، هو تخلى عن  المبادئ التي تربي عليها من اجل المصالح تلك الكلمة السرية التي باتت موضة العصر، الغريب ان هذا الموقف غير المتوقع من عضو الكنيست  من الحركة الإسلامية  لاقى تأييدا كبيرا في الشارع العربي ، والذي ينادى بانه من منطلق المصالح يجب ان تريح مبادئنا قليلا( ترك القضية الفلسطينية )  وان نصبح اسرائيليين اكثر من الاسرائيليين انفسهم ، ونفس الموقف يتغلل لقطاعات كثيرة في  المدينة المقدسة بفضل لغة المصالح التي يتحدث بها الاخوة من هناك والذي يقدمون النصح لنا وهم خير سفراء لإسرائيل في المدينة .

 وبنفس لغة المصالح واراحة المبادئ نادت شخصية مقدسية بضرورة الانخراط بالحياة العامة وسعي وراء المكاسب اليومية تمشيا مع ظروف العصر .

 وبنفس المنطق سمعن جميعا الاماراتيين والبحريين وبالسودانيين وبالتأكيد القائمة طويلة من الدول العربية ، التي تتحدث عن التطبيع مع إسرائيل ، من منطلق المصالح للدول التي زهقت الحديث عن الايدولوجيات والصراع العربي الإسرائيلي،  والذي تحول فضل اتفاق أوسلو وبأيدي فلسطينية الى صراع فلسطيني إسرائيلي ( خلاف جيران)، فسهل مهمة الهرولة العربية نحو إسرائيل.

 وبنفس المنطق يفرض الاتحاد الأوروبي والدول الأوروبية على المؤسسات المحلية شروطا صعبة للحصول على الدعم المؤسساتي .

 ولكن على النقيض من ذلك كله، نجد ان إسرائيل لم تتنازل ولن تتنازل عن مبادئها ولا عن معتقداتها ولا عن خططها الاحتلالية قيد انملة ،  بحجة منطق المصالح التي يرفرف علمه في سماء العالم العربي الوضيع .

 فزعيم المستوطنات لم يتخلى عن الاستيطان ولم يغير يستبدل اسم يهودا والسامرة باسم الضفة الغربية من اجل المصالح مع الامارات ، عندما وقعت اتفاقية بيع منتوجات الأرض المسروقة لتلك الدولة التي هرولت عارية حتى من ورقة التوت من اجل المصالح نحو إسرائيل التي لم تخلع حتى قفازتها من اجل الاعراب  المنبطحين .

 اليهود المتدينين الذي توجهوا للإمارات وغيرها لم يتخلوا عن مبادئهم من اجل الاعراب بل على العكس ، امروا هذا القوم باحترام مبادئهم وتعاليمهم الدينية اثناء الإقامة هناك، بينما لم يطلب أصحاب منطق المصالح من اليهود ولا من إسرائيل ان يتم احترم مبادئهم، لأنهم ببساط لا مبادئ لهم ولا معتقدات، في العصر الأصفر.

 فكيف سيكون هناك حوار مثمر طالما ان لغة المصالح الهشة الضيقة تسود؟ ، وكيف ستكون هناك قائمة للأعراب طالما انهم باعوا معتقداتهم ومبادئهم ببضعة قروش ملوثة بدم البشر؟

وهنا تذكرت قول حكيم صامت في هذه الأيام ، قال في حديث قديم قبل ان يدخل مرحلة الصمت : ان  مقولة  ان الامة العربية ذات الرسالة الخالدة والتي تجمعها اللغة والدين لا أساس لها في الوجود الا في عقول من كذبوا علينا في الكتب المدرسية القديمة المتهرئة ، فلا تصدقهم !

 اجدادنا صدقوهم من قبل عندما ضحكوا عليهم بالقول ان قتال الدولة العثمانية هو من اجل الحرية والاستقلال ( كما هو قول القوميين العرب ) ولكن ما حصلنا عليه هو سجن واحتلال وعبودية وغربة، صدقهم اجدادنا عندما قالوا ان بريطانيا وفرنسا ستجلب الحضارة والدولة المنشودة الديموقراطية ،ولكن ما حصلنا عليه دكتاتورية وتخلف وعهر إضافة الى إسرائيل.

 لا تصدقهم... فنحن نعيش في كذبة كبيرة سوف تكتشفها الأجيال القادمة لتلعننا جميعا.....

 وللحديث بقية

                                                        خليل العسلي