• 23 آب 2022
  • نبض إيلياء

 

بقلم : خليل العسلي 

 

قبل ايام ذهبت الى شارع يافا الذي كان في مسرح حياتنا في سبعينات وثمانيات وحتى تسعينيات القرن الماضي مركز الحياة في المدينة، وتفاجأت بحجم التغيير الهائل الذي شاهدته، فحتى المكتبة الوحيدة التي كانت هناك والتي تحمل اسم " جوردن بوك" كانت محطة أساسية من أجل الحصول على أحدث الكتب بالإنجليزية وحتى بالعبرية عن الموضوع الفلسطيني.

 تلك المكتبة علقت عليها لافتة  ّنحن نغلق ّ ، وصاحبها رامي كان شديد الحزن لان المكتبة كانت حياته فقد قضى فيها أكثر من خمسين عاما ومن قبله والدته ووالده فهذه المكتبة التي اقيمت في عشرينات القرن الماضي  في حي ماميلا( مأمن الله) الراقي كانت العنوان لغالبية المثقفين الأجانب والعرب. 

سألت رامي عن سبب إغلاقه لهذه المكتبة التي لا أذكر أني خرجت منها ذات يوم بدون كتاب أوصى عليه صاحبها، فرد أن الحياة تغيرت وأنه لم يعد قادرا على الاستمرار.

 هل فعلا أن الحياة قد تغيرت، ام انني لم اعد كما كنت ؟ تذكرت ما كتب ذات يوم عن الناقدة الأمريكية التي كانت تعشق فيلم "ذهب مع الريح" وشاهدته عشرات المرات. فجأة شاهدتها عندما تقدمت في العمر.. أثار دهشتها أنها لم تنفعل وبدا لها سخيفًا مفتعلاً، وكتبت تقول: الفيلم تغير!.. لم يعد نفس الفيلم الذي كنت أشاهده قديما.

في صباي كنت أستمع لأمي التي لا تكف عن استعادة الذكريات وكيف ان كل شي كان به بركة وكيف كانت للأزهار رائحة حقيقية.. زهرة واحدة كانت تغمر بالشذى شارعا كاملا، ناهيك عن روائح الخضار الفواكه التي تخترق الأنوف رغما عنها ، وكيف أن الأفلام كانت أنيقة وهادفة وأن الاغاني كانت رومانسية عميقة محترمة غير مبتذلة ، كنت أستمع لهذا الكلام بصمت وتأدب رغم انني لم اكن مقتنعا بهذا الكلام  الذي كنت اعتقد انه مبالغ فيه.

 نفس الكلام كنت اسمعه ايضا من المرحوم الكاتب الكبير والصحفي المقدسي "ناصر الدين النشاشيبي" في حديثه المسائي اليومي في بيته في حي الشيخ جراح ، حيث كان يقول هذه الحياة التي تعيشونها ليست حياة ، مفاهيمكم ليست نفس المفاهيم، ومعاييركم ليست سوية ،  فكنت ارد عليه مداعبا: يا استاذنا انت تغيرت وحياتكم لم تكن أفضل،" انتم دقة قديمة " فكان يضرب الامثلة التي لا نهاية لها عن جودة الحياة في زمانه ورقي الناس  ورفعة اخلاقهم وعلو شأن الثقافة في ذلك الوقت.

 كنت أشعر من كلام النشاشيبي ان الحياة اصبحت سيئة وكأنها نسخة من نسخة حتى باتت باهتة بدون لون ورائحة وقيمة، "رحمة الله عليك يا استاذنا.

 ما علينا

 المهم، اليوم أنظر أنا بدوري إلى الوراء فيبدو لي أن الحياة كانت أفضل في صباي بكثير. فأجدني اردد على اولادي نفس الحديث ولكن بشكل مختصر، لا أتجرأ على الإسهاب في الحديث عن الاغاني والافلام والكتب لأن هذا كله بنظرهم زفت على زفت ودقة قديمة.

 ولكن فعلا كان لرمضان مقدسية ونكهة أخرى في الماضي ، كان شهر محبة حقيقية بين الناس ، تجد البركة في كل شيء، وبكل قضمة خبز، وأخلاق الناس في القدس كانت تعتمد على الدين الحنيف ، تلك الأخلاق تغيرت هذه الأيام الى الأسوأ، فلم تعد هناك حرمة البيوت ولا مكانة للجار، والكل يفكر بمنطق الغاب والقوة وسادت عقلية القبيلة والعشيرة على منطق التسامح والمحبة والمصلحة العامة وحب المدينة وأهلها  وأصبحت تسمع عبارات لنحرق المدينة وأهلها طالما انا بخير. 

أين ذهبت العواطف الحارقة القديمة المحبة للمدينة وأهلها، والعاشقة للكتاب والثقافة والعلم؟ 

الإجابة التي تروق ل" كبار السن" هي: الحياة تغيرت ولم تعد هناك بركة.. لكن الإجابة الأقرب للمنطق هي: الحياة لم تتغير.. أنت الذي قد تغيرت.

 هنا تذكرت ما كتبه المبدع المصري أحمد خالد توفيق يصف الحالة بعينها عندما قال : ربما صار شمي أضعف.. ربما صار بصري أوهن.. ربما صار قلبي أغلظ.. ربما تدهورت هرموناتي.. ربما صرت كهلاً ضيق الخلق عاجزًا عن أن يجد الجمال في شيء.. ربما مازالت الفتيات جميلات والفواكه عطرة الرائحة وأغاني هذا الجيل جميلة..

نعم هو المنطق ومن النضج أن أعترف بهذا.. لكن من قال لكم إنني أريد أن أكون كذلك؟ أفضّل أن أظل شابًا على أن أكون ناضجًا، لهذا أقول لكم بكل صراحة: 

"الحياة صارت سيئة ولا تطاق فعلاً.. الله يكون في عونكم.. هيّ أيامكم دي أيام ؟!" ، انا لم اتغير… هم من تغيروا .

 وللحديث بقية …