- 28 تموز 2024
- نبض إيلياء
بقلم : خليل احمد العسلي
" لقد أصبح باب العامود بشعا للغاية ليس من الناحية المعمارية رغم أن علامات الهرم بادية على أطرافه ، بل من الناحية المعنوية النفسية " هذا هو الشعور العام في القدس .
باب العامود الذي كان المدخل إلى العالم الخارجي والداخلي ومن خلاله تعبر الى عوالم القدس الغامضة والروحانية ، المعروفة وغير المعروفة، وتولج من خلاله إلى العالم الواسع بحضاراته المختلفة ولهذا اتخذ اسم بوابة دمشق فهي العاصمة العالمية والاهم في ذلك الوقت وهي ايضا الأقرب الى القدس جغرافيا وحضاريا واجتماعيا ، وبعد الاحتلال الذي يتعمد طمس اية مظاهر حضارية وتقزيم دور ومحورية القدس العالمية وتحويلها إلى مدينة معزولة ومهمشة أطلق على باب العامود اسم باب نابلس ( شعار شخيم ) ، ولكن فشل بذلك فشلا ذريعا ، بات الاسم العبري لا يعنى شي للمقدسيين وزائريها، ولم يتمكن من فرضه على العقلية المقدسية الحضارية ، وبقى استخدامه بالقوة في الأوراق الرسمية هذا لن يغير واقعا .
ولكن المحتل تمكن من تحويل باب العامود الجميل المندمج مع محيطه بصور انسيابية انيقة لا تشعرك بالغربة عند الانتقال من العالم خلف السور الجميل الى العالم خارج السور الجميل ، الى كابوس لكل من يقترب منه واصبح الانسان يحسب الف حساب قبل ان يخطو اول خطواته نحو هذا الباب ..
هذا الشعور ينتاب كل من يقترب من باب العامود الأكبر من بين أبواب القدس حتى ابناء البلدة القديمة الذين يعتبرون أنفسهم مميزين كون باب العامود يحرسهم وسور القدس يحتضنهم ، أصبحوا يشعرون بغربة باب العامود ، من بينهم الدكتور يوسف النتشة الصديق الخبير العاشق لحجارة وتاريخ القدس يعتبر نفسه ابن المدينة الأموية التي كانت فيها القدس جوهرة الحكم ، وابن الفترة العثمانية التي شهدت فيها القدس أكبر توسع معماري حضاري، يعتبر نفسه ابن السور العثماني الذي يعرفه حجرا حجر ، ويقول النتشة في حديثنا الصباحي السريع كما هي العادة :
" صحيح أن النسيج المعماري لباب العامود لم يتغير وبقي كما هو واقصد هنا الزخارف والحجارة والتصميم ولكن نستطيع القول أن البيئة المحيطة بهذا الباب تم تشويهها بشكل كبير جدا وذلك من خلال التواجد العسكري الإسرائيلي المكثف ، والذي جعل الوصول إلى باب العامود والعبور من خلاله رحلة عذاب وألم ، لقد تم تغريب باب العامود الذي كان ذات يوم له مركزية وجدانية في قلوب وعقول وثقافة القدس واهل فلسطين عاما "
باب العامود الذي كان ذات يوم محطة بين الماضي والحاضر بين القادم من القرى وأهل المدينة ، محطة تجمع ولا تفرق محطة يحرص كل واحد منا أن يبطئ السير فيها للتمتع بالمناظر والاحاديث ، أصبح مخيفا مرعبا ينتظرك القتل بكل زواياه حتى كبار السن لم يعد لهم مكان فيه ، كهذا الرجل الذي توقف للحظة كانت في الماضي تمتد لساعة ، واليوم لم تعد تمتد لأكثر من ربع دقيقة، وقد اتكأ على عصاه قبل أن يقول :
" لقد كنت اجلس في باب العامود بالقرب من بائع الجرائد المشهور " ابراهيم شبانه " والذي عرف باسم "حارس باب العامود" ومعروف أنه كان توزيع الصحف مجانًا على الشبان والشابات ممن يجد لديهم شغفًا بالقراءة، أو من يستشعر أن لديهم مواهب أدبية وصحفية.
وانا اشاهد إلى بائع الفستق من نيجيريا إلى جانب بائعة النعنع والميرامية والتين والعنب ، وقد اصطفت نساء القرى المحيطة بالقدس بملابسهم التراثية التقليدية تعرض خيرات الأرض
أما الآن ماذا أرى في باب العامود؟! ارى جنودا مدججين بالسلاح يتلذذون بتعذيب وضرب واهانة الشباب ، لا لشيء سوى لأنهم شباب وعرب ، حتى انا العجوز منعوني من الجلوس قرب باب العامود من أجل التقاط انفاسي ، فقاموا بوضع الحواجز في مكان جلوس كبار السن للاستراحة "
ما علينا
المهم ، بدأت حكاية التغير في حياة باب العامود وحياة القدس منذ أن حل علينا الكابوس البريطانية ، عندما قرر الانتداب ازالة جميع المباني والمنشآت الجميلة والتي كانت جزءا لا يتجزأ من صورة القدس وسورها وأبوابها وخاصة منطقة باب الخليل بحجة إظهار جمال سور المدينة ، وللحقيقة كان الهدف اولا عزل المدينة القديمة وتشويه صورتها وهذا ما اثبتته الايام.
واستمر الاعتداء على باب العامود عندما اقتلعت بلدية القدس جميع الأشجار المحيطة والقريبة منه حتى الشجرة الضخمة التي كانت تحرس باب العامود والملاصقة له تم اقتلاعها وبدلا منها قامت الشرطة بنصب نقطة اسمنتية لحرس الحدود هناك وتحول الحال في الباب الى حالة امنية فقط وهذه هي النظرة الاسرائيلية لسكان القدس بأنهم خطر أمني متناسين ان الخطر الأمني الحقيقي على المدينة هو الاحتلال وليس السكان الأصليين . .
حتى التصميم البشع للساحة أمام باب العامود والتي ادت الى اخفاء جمالية الباب بهذه الساحة التي تحمل شكل الشمعدان اليهودي، هي فكرة بريطانية تخدم في طياته خبث بريطاني لتعميق الهوية الجديد التي تريد فرضها على المدينة، هذه الفكرة حولت اجمل الابواب الى أبشعها وأكثر دموية وقهرا.
ورغم ذاك لا زلنا نحاول ترميم الذاكرة المشوهة منذ الانتداب وصولا الى الاحتلال ونعمل على إبقاء باب العامود والرمزية التي يحملها حية في قلوبنا ونقول:
إن من ينظر الى باب العامود يشعر أن حجارته دافئة مليئة بالحياة وتتحدث مع كل من يمر من خلالها مرحبة بهم ، ومعاتبة من غاب عن باب العامود فترة طويلة وهذا انعكاس لمدينة القدس تلك المدينة العظيمة التي تمتلئ بأشخاص لديهم قلوب دافئة تماما مثل حجارة سورها وحنان بابها أي باب العامود .
للحديث بقية
طالما أن في العمر بقية