- 26 تموز 2015
- حكايات مقدسية
القدس- اخبار البلد- تعد مشكلة السكن اخطر مشكلة تواجه البقاء المقدسي في المدينة، بل انها الاخطر على الاطلاق ، ورغم ذلك فالجهود المبذولة لحلها من قبل جميع الاطراف هي صفر تقريبا، ونحن في " اخبار البلد" نسلط الضوء على هذه المشكلة من خلال تقرير اعده الزميل العزيز الصحفي عبد الرؤوف الاناوؤط ونشره في صحيفة " السفير" اللبنانية "
شطب الشاب باهر (44 عاماً) مخطط امتلاك شقّة في القدس الشرقية حتى من أحلامه، بعدما اتضح له إثر سنوات من البحث والتقصّي والحساب، أن هذه مهمةٌ مستحيلة بالنسبة إليه. هو أب لطفلين، ومن سكان بلدة شعفاط. يقول مستهزئاً: "حتى لو فزت بمليون شيكل إسرائيلي (256 ألف دولار) باليانصيب فإنها لن تكون كافية لشراء شقة في المدينة! وبالتالي، وجدت أنه من الأفضل لي أن أشطب هذه القضية من أولوياتي".
محمد خليل (50 عاماً، ومن سكان بيت حنينا) يشاطره الرأي والحال: "أدفع شهرياً ألف دولار إيجار شقة مساحتها 100 متر مربع، وعلى الرغم من أن المبلغ كبير بالنسبة إلى شخص لديه أبناء في المدارس والجامعات، ولكن بصراحة امتلاك شقة هو حلم جميل تحوله الأسعار المعروضة إلى كابوس".
الأرقام في المدينة تتحدث عن نفسها. فسعر الشقة البالغة مساحتها 100 متر مربع في مناطق الشيخ جراح ووادي الجوز، القريبة من البلدة القديمة، يبدأ من نصف مليون دولار. أما في المناطق البعيدة نوعاً ما عن البلدة القديمة، مثل شعفاط وبيت حنينا ورأس العامود، فيبدأ من 350 ألف دولار، ويكاد يكون هذا الرقم هو السعر السائد في الأحياء الأخرى من المدينة.
السياسات بدأت في 1967
يشرح مستشار شؤون القدس في ديوان الرئاسة الفلسطينية المحامي احمد الرويضي لـ "السفير" عن "القليل المتوفر من الشقق في مدينة القدس الشرقية"، بصفته العامل الحاسم في التحكّم بالأسعار: "عددها القليل أكبر بكثير من إمكانيات غالبية السكان، ما يدفع الكثير من الشباب تحديداً إلى هجرة المدينة نحو الأماكن القريبة من القدس، ولكن خارج حدود البلدية بالمفهوم الإسرائيلي. أو يهاجروا إلى مناطق مثل رام الله. حوالي 120 فلسطينياً مقدسياً هجروا المدينة بسبب هذه السياسات الإسرائيلية".
مقدسيون كثر وجدوا أنفسهم أمام واحد من أربعة خيارات، إزاء واقعٍ صعب كهذا في المدينة: فإما البقاء في المدينة ودفع الإيجارات الباهظة، أو الاقتراض من البنوك بشروطها، ما يعني مراكمة ديون تربط العائلة حتى الأحفاد لسدادها، أو البناء على أراضٍ لهم من دون الحصول على تراخيص بناء والمخاطرة بإمكانية الهدم، أو، أخيراً، الهجرة إلى خارج المدينة.
وفي مقابل الأربعة خيارات، ثمة أربعة أسباب تؤدي إلى تفاقم نقص المساكن في القدس وهي: أولاً، سياسات الاحتلال الإسرائيلي الهادفة إلى تقليص أعداد الفلسطينيين في المدينة، وثانياً، جشع المقاولين وأصحاب مشاريع الإسكان، وثالثاً، انعدام الدعم العربي والإسلامي للإسكان في المدينة، ورابعاً، شحّ التسهيلات المصرفية للسكن.
غير أن السياسات الإسرائيلية المطبقة في مدينة القدس الشرقية منذ بدء الاحتلال الإسرائيلي في حزيران العام 1967، تبقى المسبب الرئيس لمشكلة السكن في القدس الشرقية. وفي هذا السياق، يشرح مدير دائرة الخرائط في جمعية الدراسات العربية خليل التفكجي: "مباشرة بعد الاحتلال، وضعت سلطات الاحتلال قوانين تقضي بمصادرة الأراضي التي تعتبر كإحتياطي إستراتيجي للتوسع السكاني العربي، وقوانين التنظيم والبناء والتي تحدّ من النمو السكاني الفلسطيني. فبلغت نسبة المساحات التي تمت مصادرتها للمصلحة العامة 35 في المئة من المدينة، في حين أن أكثر من 52 في المئة من الأراضي أصبحت مناطق خضراء أو شوارع أو مناطق غير منظمة يمنع البناء عليها، ما لم يترك للفلسطينيين سوى نسبة 13 في المئة من مساحة القدس للبناء".
ويتفق المحامي الرويضي مع هذه الأرقام مشيراً إلى أن "هناك عدة مشاكل تحول دون توفر السكان في القدس، وأخطرها غياب التخطيط الهيكلي. فالإسرائيليون خصصوا نسبة 13 في المئة فقط من القدس الشرقية للبناء الفلسطيني، وهي مساحة ضيقة أخذاً بعين الاعتبار النمو الديمغرافي الفلسطيني في المدينة.. في حين أن نسبة 42 في المئة من مساحة القدس الشرقية خصصت للاستيطان".
استنادا إلى معطيات بلدية القدس الغربية الإسرائيلية، ثمة 39 ألف شقة قائمة في مدينة القدس الشرقية الآن يسكنها الفلسطينيون.
ولكن حقيقة وجود أكثر من 300 ألف فلسطيني في القدس الشرقية يشكلون نحو 37 في المئة من سكان مدينة القدس بشطريها الشرقي والغربي، يكشف فداحة مشكلة السكن في المدينة.
فرص لليهود، تتحجّم أمام الفلسطينيين
لا تقتصر السياسات الإسرائيلية على مصادرة الأراضي، إذ أن الحكومة الإسرائيلية تسعى أيضاً إلى تقليص عدد الفلسطينيين في المدينة، سواء بتقنين رخص البناء أو الانفلات في منح رخص البناء للمستوطنين الإسرائيليين، الذين يقدر التفكجي أعدادهم اليوم في المستوطنات القائمة في القدس الشرقية وحدها بما يزيد عن 200 ألف مستوطن.
وفي هذا الصدد، يشرح التفكجي أنه "بعد ضم إسرائيل للقدس الشرقية في العام 1967، تم إعداد مخطط هيكلي رئيسي لاستعمالات الأراضي يشمل حدود القدس الموسعة في العام 1967. وعرف هذا المخطط باسم "مخطط هيكلي رئيسي للقدس 1968"، وما زال يوجه المخططات الهيكلية المحلية والتفصيلية المعدّة في القدس حتى اليوم.. وهكذا، فإن تخطيط استعمالات الأراضي في القدس هو نتاج مباشر للأهداف السياسية القطرية الإقليمية والمحلية. والتخطيط هو ترجمة مفاهيم وأيدلوجيات جيوسياسية وبيئية تسعى إسرائيل إلى تحقيقها في القدس، بشكل يؤدي إلى تأمين السيطرة والسيادة على المدينة، وفتح فرص أمام اليهود في المدينة مقابل تحجيمها وتحديدها أمام الفلسطينيين".
وفضلاً عن عدم تحديث المخططات الهيكلية في مدينة القدس الشرقية لتأخذ بعين الاعتبار التوسع الديمغرافي الفلسطيني، فإن بلدية القدس الغربية تضع المعوقات أمام حتى إمكانيات البناء على ما تبقى من أراض غير مصادرة في المدينة. يشرح الرويضي: "ملكيات الأراضي غير منظمة بشكل واضح، وبالتالي فإن معظم الأراضي هي إما وقفية تابعة للأوقاف سواء الإسلامية أو المسيحية، أو أراض خاصة وأغلبها غير منظمة. ما يسبب تنازعا في الملكية ويؤثر على فرص البناء. إذ للحصول على رخص بناء، يتوجب التسجيل في سجل الملكيات (الطابو) عبر إثبات الملكية، وهو أمر صعب في القدس".
ويكمل: "أضف إلى ذلك قلة الإمكانيات المالية. فالحصول على رخصة بناء لبيت مساحته 120 متراً مربعاً يحتاج على الأقل إلى حوالي 100 ألف دولار. هذه حقيقة وليست تهويلاً، ما يثقل كاهل السكان سيما وان الإمكانات المتاحة للسكان لا تسمح بالبناء".
الرخص مستحيلة.. والهدم حتميّ
100 منزل يهدم سنوياً!
يتفق التفكجي والرويضي مع زياد الحموري، مدير مركز القدس للحقوق الاجتماعية والاقتصادية، على أن عدد المنازل غير المرخصة، بالمفهوم الإسرائيلي، يصل إلى 20 ألفاً وجميعها مهددة بالهدم. ويشير الرويضي إلى أن الفلسطينيين يلجأون إلى البناء من دون ترخيص بعدما تسد طرق الحصول على رخص بناء من البلدية الإسرائيلية.
ويوضح الحموري لـ "السفير" أن "عدم الترخيص أساسي. وهناك نوعان من الهدم الإداري، فإما يكون القرار صادراً عن بلدية القدس الغربية أو وزارة الداخلية الإسرائيلية، وعادة ما تصدر قراراتهما بحق منازل غير مأهولة، أو أن تكون قرارات هدم عادية وتطال المنازل المأهولة بالسكان".
وأضاف: "وهناك أيضاً مخالفات البناء التي تصدرها البلدية الإسرائيلية بداعي البناء غير المرخص، وتصل قيمتها في بعض الأحيان إلى 80 و100 ألف دولار أو أكثر. جزء كبير منهم يدفع المخالفات، ولا يحصل على رخصة. وفي معظم الأحيان، وبعد الانتهاء من دفع المخالفات، يتم هدم المنزل بادعاء أنه غير مرخص".
ويكمل التفكجي لافتاً إلى أن "إمكانية الحصول على تراخيص تعتبر من المستحيلات، نتيجة عدم وجود مخططات للأحياء الفلسطينية والمماطلة في إعداد هذه المخططات، أو إعداد مخططات لا تتناسب وحاجة السكان إلى أراضٍ منظمة، أو تحديد نسب بناء منخفضة لا تفي بالاحتياجات في الأحياء الفلسطينية. فتتراوح النسب بين 25 و75 في المئة للفلسطينيين بالمقارنة مع نسب المستوطنات الإسرائيلية التي تتراوح ما بين 120 و300 في المئة. وهذا الفرق بين نسب البناء معناه التفوق البنائي الإسرائيلي، مقابل انخفاض نسبة البناء العربي".
وتشير المعطيات إلى أن بلدية القدس الغربية تهدم سنوياً أكثر من 100 منزل في القدس الشرقية، بداعي البناء غير المرخص. في المقابل، يقول الرويضي أن "هناك حاجة فورية لحوالي 20-30 ألف شقة. ويزداد هذا العدد سنوياً مع الزيادة الديمغرافية في المدينة".
الإقامة خارجها شطبٌ منها
عدم توفّر المساكن في القدس الشرقية اضطر عشرات آلاف الفلسطينيين المقدسيين إلى البحث عن مساكن لهم في محيط مدينة القدس الشرقية. ويقدر الحموري والرويضي أن 120 ألف مقدسيّ يقيمون الآن في مناطق تعتبر إسمياً ضمن حدود بلدية القدس الغربية، مثل مخيم شعفاط وسميراميس وقلنديا وكفر عقب، أو في مناطق تصنف على أنها ضمن نطاق الضفة الغربي ة مثل رام الله وبيت لحم وبيت جالا وأبو ديس والعيزرية.
ويقول الحموري: "في المناطق المحيطة بالقدس، أسعار الشقق أقل بكثير مما هي عليه في داخل القدس الشرقية. وبالتالي، انتقل جزء كبير من السكان إلى هناك، وهم يعتبرون أنفسهم في القدس، ولكنهم الآن يدركون أن هذه المسألة مشكوك فيها". وأضاف: "معظم الساسة الإسرائيليين يقولون أن الجدار هو حدود إسرائيل، ورئيس البلدية الإسرائيلي تحدث علانية عن تحويل مسؤولية هذه المناطق إلى السلطة الفلسطينية أو الجيش الإسرائيلي، ومن الممكن أن يتم اخذ هكذا إجراء في أي وقت".
ويرى الرويضي والحموري أن غضّ السلطات الإسرائيلية الطرف عن البناء الواسع غير المرخص في المناطق المحيطة بالقدس "هو تهجير صامت للمقدسيين إلى هذه المناطق".
ويلجأ المقدسيون للبحث عن مساكن لهم في المناطق المحيطة في القدس، حتى وإن كانت غير مرخصة، لتثبيت أقاماتهم في المدينة، وبالتالي منع السلطات الإسرائيلية من شطب هذه القامة واسقاط الهوية المقدسية عنهم.
وقال الحموري" تدرك البلدية الإسرائيلية أن عمليات البناء التي تعتبرها غير مرخصة في محيط القدس واسعة ولكنها تشجع الناس على الذهاب إلى هناك من خلال تلقي ضريبة الأملاك (الارنونا) عن هذه المساكن".
وتعتبر ضريبة (الارنونا) شرطا أساسيا لدى السلطات الإسرائيلية لإثبات المقدسي الفلسطيني بأن مركز حياته هو القدس.
ويقول الحموري أن مركزه يتلقى يومياً شكاوى من المقدسيين بسبب شطب هوياتهم المقدسية، "أغلب الناس تسحب هوياتهم بسبب عدم قدرتهم على شراء أو استئجار منزل في القدس بدعوى ما يسمى مركز الحياة، وهو تحايل على القانون الإسرائيلي نفسه وينص على أن من لا تثبت إقامته في القدس يفقد هويته المقدسية".
وبحسب تقديرات رسمية إسرائيلية، فقد تم منذ العام 1967 شطب أقامات ما يزيد عن 14 ألف مقدسي من قبل السلطات الإسرائيلية، سواء لإقامتهم خارج الأراضي الفلسطينية أو في الضفة الغربية.
وعلى الرغم من السياسات الإسرائيلية، يشير التفكجي إلى أن ثمة إمكانية لإقامة 23 ألف وحدة سكنية في مدينة القدس، حتى ضمن القانون الإسرائيلي. ولكن إقامة هذه المساكن تتطلب الإمكانيات المالية.
الحل، بالنسبة إلى الرويضي، يكون بتنفيذ "مشاريع تدعم على الأقل الطبقات المتوسطة بأسعار معقولة. وهناك أيضاً أهمية أن يكون هناك دعم باتجاهات مختلفة، أولها دعم الحصول على رخص بناء في المناطق المسموح البناء فيها بسبب شح الإمكانيات المالية لدى المواطنين. هذا يتطلب أيضا دعم مخططات التخطيط الهيكلي".
ويحدّد: "هناك ضرورة لأن تكون هناك جهة تقدم القروض الميسرة للمقدسيين، بما في ذلك تقديم منح تساعد السكان. فالدعم العربي والمسلم المقدم للفلسطينيين مشروط بعودة القروض علماً بأن الإمكانيات المالية للسكان ضعيفة. أيضاً، هناك حاجة لتسهيلات من البنوك للسكان".
وفي حين تشير تقديرات إلى أن تكلفة الشقة في القدس تبلغ حوالي 200 ألف دولار، فإن الأسعار المعروضة من قبل المقاولين لا تقل عن 350 ألف دولار. ما يجعل هذه التجارة الأكثر إدراراً للربح في المدينة